ماذا عن الأهداف الكاذبة؟
بشار جرار
علت شكاوى الناس من الأخبار الكاذبة، معظمهم آثر الإحجام عن التصعيد اتقاء لشرور أكبر حتى لا يصير هدفا، فيما اكتفى بعضهم بالرد تفنيدا وكيل الصاع صاعين، ليصر البعض الآخر على الاحتفاظ بحق الرد القانوني الرادع.
ما من أحد منح الأخبار الكاذبة شهرة -في بلاد العم سام والعالم- أكثر من الرئيس الأمريكي الأسبق وربما المقبل دونالد ترامب. العدو المشترك له ولخصمه ومنافسه الرئيس جو بايدن ولسائر المحطات الأمريكية في هذا الموسم الانتخابي هو الأخبار الكاذبة «فيك نيوز». تلك حقيقة يحذّر الجميع من مخاطرها المتزايدة على صناعة المزاج والرأي العام في عدد من الانتخابات المصيرية في أمريكا وعدد من الساحات الأوروبية، لكن ماذا عن الوعود والأهداف الكاذبة؟ إن أردنا خففنا من وطأة الصفة واعتبرناها وعودا وأهدافا مضللة، وهمية، صعبة أو بعيدة المنال، غير واقعية بمعنى افتراضية، أو حتى مستحيلة التحقيق؟
لنطرح مثلا من انتخابات التجديد النصفي لمجلسي الكونغرس الشيوخ والنواب، من حيث التأثير على توازن القوى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بشكل مباشر، والقضائية أيضا على نحو غير مباشر.
لنكن أكثر تحديدا، لنأخذ شعارا، هدفا ووعدا انتخابيا واحدا من السجال بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي وداخل كل منها وهو ليس بجديد، لكنه اكتسب زخما بعد إبطال ما عرف بقانون «رو ضد ويد» 1973، معركة قضائية سياسية بامتياز نجح ترامب في كسبها وفاء لوعد انتخابي في الانتخابات الرئاسية قبل السابقة 2016 ، فبرّ بما تعاهد به قاعدته الشعبية من المحافظين، خاصة المسيحيين الإنجيليين والكنائس الرسولية. قضية الإجهاض التي عادت للصدارة بزخم وربما بحسم في عدد من الولايات المتأرجحة سواء بقي بايدن أم انسحب، أم تمت إزاحته.
كانت التحليلات -التي بلغت من الحدة الدرجة التي صارت محل مراهنات كما في سباق الخيل ومباريات الملاكمة والمصارعة الحرة- كانت تشير إلى ما عرف بالموجة الحمراء «ريد ويف». البعض رأى الحماس الانتخابي وصراع الديكة بين أقصى اليمين واليسار، أقرب إلى تسونامي أحمر. رؤية غالبها التمنّي، استنادا إلى ما ساقه النجم الإعلامي تاكر كارلسون من مؤشرات بعضها اعتبرها عالية الموثوقية، لسيطرة الجمهوريين على رئاسة مجلس النواب بأغلبية قوية، مقابل أغلبية أقل قوة أو بسيطة في مجلس الشيوخ.
خابت التوقعات على نحو محرج قيل إنها من الأسباب التي أدت إلى فصل كارلسون من قناة فوكس نيوز، لتنطلق حملة مقاطعة للقناة غير مسبوقة من قبل قاعدتها الجماهيرية الأهم وهم الأمريكيون المحافظون عموما والبيض خصوصا. أقر كارلسون بعدها بأنه لم يكن مصيبا في قراءة المشهد. وثبت أن الوحيد الذي كان مصيبا في توقعاته هو الرئيس جو بايدن الذي ذكّر الداعين إلى انسحابه في هذه الأيام بأنه لا داعي للقلق ولا الهلع من عودة ترامب، مشيرا إلى أن الاستطلاعات والتحليلات ستكون مرة أخرى بعيدة كليا عن الصواب.
بعد قراءة متأنية، اتضح أن نتائج التجديد النصفي للكونغرس أو التمهيدية تأثرت بالموقف من الإجهاض. اللافت أن أكثر المتحمسين لمواجهة اليسار المتطرف كان الجمهوري المخضرم عضو مجلس الشيوخ السيناتور ليندسي غراهام. طرح أفكارا لضبط الإجهاض -لا حظره- سرعان ما التقطها الخصوم وقاموا بتوظيفها وتضخيمها لكسب أصوات اليسار والنساء بمن فيهن الجمهوريات والمستقلات، خاصة مما يعرف بأصوات الضواحي «سابيربيان فوت» أو دوائر «سابيربيا» الانتخابية.
من الجلي أن ترامب أخذ القضية بالحسبان في تصريحاته حول الاستثناءات ومدة السماح بالإجهاض منذ بدء الحمل، وكذلك في اختياره مرشحا أو مرشحة لمنصب نائب الرئيس، حيث من الذين تم استبعادهم أولئك الذين اتخذوا مواقف مشددة من الإجهاض –ك «داغ (دوغلاس) بيرغام» حاكم ولاية نورث داكوتا، فضلا عن تبرّؤ ترامب من «مشروع «2025» الصادر عن مؤسسة «هيراتيج» اليمينية المحافظة، الأقرب إلى الحزب الجمهوري وفيه أفكار مقترحة للمرشحين والسياسيين الجمهوريين والمحافظين في شتى القضايا ومن ضمنها الإجهاض، وقطبا الأسرة الزوج والزوجة ذكرا وأنثى.
الخلاصة، أن كثيرا من التحليلات الخاطئة ليست دائما كاذبة عامدة متعمدة، قد يرجع الأمر إلى أخبار كاذبة، والأكثر خطورة الوعود الكاذبة، والطامة الكبرى في الأهداف الكاذبة.
إن أردنا نتائج باهرة في الانتخابات، خاصة نسبة المشاركة في الترشيح والاقتراع، من واجبنا -ناخبين قبل أن نكون مرشحين- الصدق والواقعية في طرح الأهداف. ما من شك مثلا أن الوالدين يحبان فلذات الأكباد إلى حد الفداء، وبالتالي العطاء بلاد حدود، لكن الوعود لا تصرف بالمجان -حتى لاعتبارات تربوية- وإلا صارت وعودا كاذبة. المطلوب الصدق مع الذات أولا، ومن ثم مع أقرب الناس إلينا، وبالتالي الأطراف الأخرى في العملية الانتخابية.
لن يتمكن مرشح مهما كان صادقا أمينا مخلصا في وعوده من البر بها، ما لم تكن قابلة للتحقيق، ووفق برنامج وربما جدول زمني، وإلا خسر المعركة لصالح مرشح اختار بذكاء أو دهاء أو صفة أخرى عدم الخوض فيما لا يقدر عليه، ويعلم ألا قبل لأي حزب ولا حكومة بتحقيقه كالتعليم أو الصحة بالمجان بمعناها الشمولي والتخصصي، أو رفع التأمينات الاجتماعية دون اعتبار لحجم المديونية داخلية أم خارجية، أو زيادة الدعم الحكومي لأسعار الطاقة بما يضاهي الدول الأعضاء في أوبيك! أو أوبيك بلاس!!.
قد يكون الوعد أو الهدف الواقعي هنا كدولة مستهلكة مستوردة للنفط والغاز، هو رفع سوية الوعي الشعبي والشراكة بين قطاعات الدولة، عبر تفعيل آليات الترشيد والاستغناء.
قد يكون الشعار الانتخابي -على سبيل الدعابة- عوضا عن «سيارة لكل مواطن»، سيارة لكل أسرة. وقد عشت بفخر ذلك الزمن الذي كانت فيه سيارة الحارة، تعمل أيضا عمل سيارة كل جار، عملا بمقولة «الجار للجار ولو جار» و»جارك القريب أقرب من أخيك البعيد».
كل انتخابات والجميع رافع إيده، ناجحا أو حامدا لله على الأمن والأمان، وهو في نظري الأولى والأهم من كل شيء بما فيها «الديموقراطية البرلمانية» أو «الحكومة النيابية» التي إن كانت خير وبركة، ولا نريدها قطعا كالحال التي تشهدها عاصمة النور، باريس هذه الأيام!