حزب الزهورات!

بشار جرار

المعروف لا يعرّف. من منّا لم يعرف «الزهورات» من أعظم يد في الدنيا وأطهرها، من لدن والدته صغيرا وكبيرا، في الصحة والسقم. لا غنى أبدا عن «استكانة» زهورات تهدأ فيها النفس وتستكين وتعرف فيها الروح التجلي والتسامي في آن واحد.

في بلاد ما زالت تعاني مما عافانا الله منه، الأمية -بقي أقل من أربعة وتسعة الأعشار بالمئة نهاية 2021 بحسب وزارة التربية التعليم- لا يتوقف الناخبون كثيرا عند رمز الحزب «المفتاح» مثلا أو «الصندوق» فالناس تعرف بعضها بعضا، حسبا ونسبا وأصلا وفصلا في سائر أرجاء المملكة.

«كل الناس خير وبركة». جميعنا في هذا الحمى الهاشمي العبدلي، إن لم يجمعنا منسف أو مقلوبة أو شبس وباسطة أو «دولمة» -أكلة «محاشي» مشهورة في العراق أصلها تركي أو أرمني كل حسب روايته التاريخية-جمعتنا قهوة، قهوة السادة «السادة» التي لا يدخل عليها إلا حب (الهال أو الهيل) «الحبّهان» في اللهجة المصرية أو الزعفران والزنجبيل والقرنفل زيادة، في القهوة الخضرا أو السعودية.

وقد امتدت القائمة وطالت، خاصة المستوردة من الغرب. سلسلة مطولة من الإضافات من حليب (حيواني أو نباتي المنشأ) وكريمات («الفووم» على شكل رغوة تزيد عديد السعرات الحرارية) ومواد كيميائية «غير معروف قرعة أبوها من وين»، كلها دخلت على القهوة والشاي في أحجام مبالغ في كبرها. ما عادت مشروبات الشاي والقهوة ساخنة ولا حتى فاترة بل باردة ومثلجة. بين كل ما تقدّم لا أرى بديلا سوى الزهورات، هي الأنفع والأسرع والأرخص. لكنها هي الأخرى لم تسلم من العبث للأسف ومضاربات التجار.

«زهوراتنا» وأعشابنا كانت لا تشترى، كانت تلتقط بأيادي الكبار من الحاكورة والحقل والبادية. نعنع وميراميّة (مريميّة) وملّيسة وجِعْدِة، وكلها فرادى وزرافات فيها الشفاء وما يسر الخاطر، بعد طبق «رشوف» يعدل -في أيام برد الدنيا، وليالي «برد الغربة»- الدنيا وما فيها.

صار عندنا -في الوطن والمهجر- أعشاب سورية ولبنانية في المتاجر التي تبيع سلعا شرق أوسطية، في واشنطن وضواحيها. في غربتي أيام الدراسة في إنجلترا تعرفت على «المَتِّة» عبر زملاء كرام من الشقيقتين سورية ولبنان. صارت من الرواج بعد -الربيع العربي اللعين- تباع عبر «أمازون» ليس فقط العشبة وإنما عدّتها كاملة «القصعة الصغيرة والمصاصة». لم يخطر ببال عشاق المتة وما يسمى مشروبات الطاقة أنه عبر «كيف» المنبهات ثمة مخاطر الانزلاق المباشر عبر دهاليزه وسراديبه إلى مهالك الإدمان. ظنها بعض الطلبة وأهاليهم أنها مشروبات بعيدة عن الشبهات والأذى، حملها المهاجرون القدامى من أمريكا الجنوبية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى الوطن الأم عبر شرق البحر الأبيض المتوسط ومعها الكثير من الأفكار التي يصر البعض على تمريرها عبر ما هو أكبر من «قعدة» متّة بين «شلة صحاب».

قاطعت المتة لأسباب صحية، بعد تحققي من خطورة نسبة الكفايين العالية فيها وثبوت أن ضررها أكثر من نفعها شأنها شأن جميع المنبهات وبخاصة الكارثة الصحية المسماة «مشروبات الطاقة». صحيح أنها تكبح الشهية فتخفف الوزن، لكن من مضار المتّة الثابتة سرعة «النرفزة» وسورة الغضب ولا قدر الله سرطان الأحبال الصوتية، فضلا عن الأرق وسوء نوعية النوم الذي يفضي بدوره إلى لائحة خطرة من الأضرار من ضمنها التوتر الاجتماعي وحوادث الطرق، لا بل حتى العنف الأسري والطلاق في بعض الحالات خاصة في شهر رمضان الفضيل، حيث يعاني البعض أعراض الانسحاب من الإدمان على النيكوتين والكفايين والسكّر والخبز وما شابهه من معجنات مخبوزة، والسر في بروتين «الغلوتين» الذي ثبت هو الآخر أن ضرره أكثر من نفعه سيما بعد التعديل الوراثي على جينات القمح كما عرف الأجداد. لم يكن خبز زمان لا طريا ولا منتفخا بل قاسيا متماسكا لهذا كان «يكسر» للمشاركة بين المدعوين إلى المائدة.

لو أتاحت لي الظروف الاقتراع لقاطعت حزب المتّة وانتخبت حزب الزهورات، فأنام قرير العين وأحلم ببرلمان لا دخان فيه بمجلسيه وبأي حكومة حظيت بثقة سيدنا ونواب الأمة. لن أبدد وقتي في قراءة بيان انتخابي لمرشح ينصب صيوانا أو خيمة انتخابية لا أستطيع الاقتراب منها مئات الأمتار من رائحة الدخان بأنواعه. ولست مستعدا للمخاطرة بحياتي جراء انفجار «فيب» بين شفتي مراهق أو مدخن تقليدي سابق، حتى لو كان خطاب المرشح ناريا -حارقا خارقا متفجرا- عن التصدي للإمبريالية والصهيونية والماسونية العالمية!