نــهــايــة هيمنة الدولار
إسماعيل الشريف
«إن اللجوء إلى رجال الدولة لا يكون من أجل تسوية القضايا اليسيرة، فهذه غالبًا ما تحل نفسها بنفسها، ولكن حين يختل التوازن وتختفي الأحجام في الضباب، تسنح الفرصة لاتخاذ قرارات إنقاذ العالم». تشرشل.
في عام 1944، شهد العالم لحظة تاريخية مفصلية تمثلت في توقيع اتفاقية بريتون وودز، التي أعلنت رسميًّا عن نهاية إمبراطورية وبزوغ أخرى جديدة، حيث نهاية هيمنة الجنيه الإسترليني كعملة احتياطية عالمية، وفتحت الباب أمام صعود نجم جديد تمثل في الدولار الأمريكي، تعود هذه التحولات الجذرية إلى استنزاف بريطانيا العظمى لاحتياطياتها من الذهب خلال الحربين العالميتين، مما أدى إلى تراجع مكانتها الاقتصادية العالمية.
اغتنمت الولايات المتحدة هذه الفرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال تأسيس مؤسسات دولية تضمن مراقبة أسعار الصرف وتكريس مكانة الدولار كعملة مهيمنة.
ومع ذلك، واجهت الولايات المتحدة تحديًا كبيرًا تمثل في حرب فيتنام المُكلفة، التي أدت إلى استنزاف احتياطياتها من الذهب، ولمعالجة هذه الأزمة، عقدت الولايات المتحدة اتفاقية تاريخية مع المملكة العربية السعودية عام 1974، عرفت باتفاقية «البترودولار»؛ تنص على أمرين مهمين: ربط مبيعات النفط السعودي حصريًّا بالدولار الأمريكي، مقابل ضمانات أمنية أمريكية لحماية المملكة، كان ذلك في الثامن من يونيو عام 1974 ولمدة خمسين عامًا، انتهت صلاحية هذه الاتفاقية في الشهر الماضي، وحتى الآن لم يتم تجديدها!.
توجت هذه الاتفاقية الدولار كأقوى عملة في العالم لا تنازعها أي عملة أخرى؛ مما وفر الأموال للولايات المتحدة وخفض كثيرًا من قيمة وارداتها، الأمر الذي وفر رخاءً اقتصاديًّا لمواطنيها. وظفت الولايات المتحدة فائضها المالي في استثمارات مُربحة، مثل سندات الخزينة، كما خفضت أسعار الفائدة، مما عزز من مكانة الدولار كأقوى عملة في العالم بلا منازع.
لم يقتصر تأثير هيمنة الدولار على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد ليشمل السيطرة السياسية أيضًا، فقد استغلت الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية لفرض نفوذها على الدول الأخرى، مستخدمةً أدوات العزل والعقوبات، مثل ما حدث مع إيران وفنزويلا، أو حتى التدخل العسكري، كما في العراق وليبيا، لكبح جماح أي دولة تُبدي تمردًا على هيمنة الدولار.
مع انتهاء صلاحية اتفاقية «البترودولار» هذا العام، ودون تجديد لها حتى الآن، يُطرح السؤال حول مستقبل هيمنة الدولار الأمريكي؛ فهل ستظل الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على مكانتها الاقتصادية المهيمنة؟ أم ستشهد الساحة الدولية ظهور عملات جديدة تنافس على عرش العملة العالمية؟
يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية هائلة تُعيد رسم خريطة القوى الدولية، وتُهدد هيمنة الولايات المتحدة التي ظلت قائمة لعقود طويلة؛ فاليوم برزت المملكة العربية السعودية كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، بينما تراجعت هيمنة الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، وفي المقابل تسللت الصين بثبات إلى إفريقيا مستثمرة بكثافة في البنية التحتية، من خلال بناء المطارات والموانئ ومحطات الطاقة، نتيجة لهذه الاستثمارات، باتت 50% من ديون القارة السمراء مستحقة للصين، مما يُعزز نفوذها الاقتصادي بشكل كبير.
لم تقتصر التغيرات على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتدت إلى المجال العسكري أيضًا، فقد دخلت روسيا بقوة إلى إفريقيا من خلال المؤسسات شبه العسكرية؛ مثل فاغنر والمرتزقة لتوفير الحماية للدول الإفريقية، أدى ذلك إلى تمرد دول مثل الكونغو ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى على الغرب، واتّجاهها نحو تحالفات جديدة مع روسيا والصين.
ثم جاء طوفان الأقصى وحرب غزة الأخيرة، لتُعزز من شعور دول المنطقة بضرورة إعادة النظر في تحالفاتها؛ حيث مارس الكيان المحتل اعتداءات وحشية على المدنيين بدعم أمريكي غير محدود، مما دفع دول المنطقة إلى التفكير مليًّا في تحالفاتها والبحث عن بدائل جديدة، مع ظهور قوى أخرى بدأت تنافس الولايات المتحدة، على رأسها الصين التي تحتاج إلى نفطها. أصبحت الولايات المتحدة نفسها مصدرة للنفط، ووجدت هذه الدول أنها قادرة على احتواء إيران والتوصل معها إلى تفاهمات، تدرك هذه الدول تمامًا أن الولايات المتحدة تريد الإبقاء على إيران وتغض النظر عن خططها التوسعية، لضمان استمرار هيمنتها.
لقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات استباقية قبيل انتهاء هذه الاتفاقية، فانضمت هي والإمارات العربية المتحدة إلى مجموعة بريكس، وشهدت تقاربًا كبيرًا مع الصين كما قامت بزيارات متبادلة مع إيران.
حتى كتابة هذه السطور، لم تُجدد المملكة العربية السعودية اتفاقية «البترودولار»، ويُرجح أن يؤدي عدم تجديد هذه الاتفاقية إلى إضعاف الدولار، آخر سلاح اقتصادي بيد الولايات المتحدة، من شأن ذلك أن يُؤدي إلى تراجع الأسواق المالية وسندات الخزينة، وارتفاع معدلات التضخم والفوائد البنكية، مما ينذر بنهاية هيمنة إمبراطورية الدولار الأمريكي.
لا يحدث انهيار الإمبراطوريات بين ليلة وضحاها، بل تتراجع تدريجيًا وببطء مؤلم بعيدًا عن الأضواء، ومع ذلك، قد تأتي لحظة مفصلية تُسرّع من انهيار الإمبراطورية وتجعله مدويًا. أعتقد أن الولايات المتحدة تنتظر هذه اللحظة بحذر، مدركةً أن زمن هيمنتها قد يوشك على الانتهاء.