بيتر هيغز... أمين المتحف البريطاني وسارقه
بدأت القصة الغريبة لسقوط لص المتحف البريطاني في أغسطس/آب 2016. ولم تُكتشف حقيقة السارق الذي لم يكن إلا أحد أمناء المتحف نفسه إلا في 2023. كيف أسقط تاجر قطع فنية دنماركي لص المتحف البريطاني؟
كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، الاثنين الماضي، في بث صوتي على موقعها الإلكتروني، عن قصة السرقات التي تعرض إليها المتحف البريطاني العام الماضي. وقالت الإذاعة إن البطل الحقيقي وراء اكتشاف لغز سرقة المعروضات كان الدنماركي إيتاي غرادل، التاجر الشغوف بالأعمال الفنية والباحث الدائم عن الأحجار الكريمة عبر منصات مختلفة، والذي يتباهى بامتلاكه خزائن عرض في غرفته العلوية تحتوي على مئات الـ"كنوز" النادرة.
في واحدة من جلساته الطويلة للبحث على مواقع الإنترنت عن أفضل القطع التي سيضمها إلى مجموعته النادرة، وجد إيتاي غرادل نفسه ليلة 7 أغسطس/آب 2016 أمام جزء من حجر كريم يصوِّر إله الخصوبة اليوناني بريابوس، معروضاً على موقع إيباي مقابل 40 جنيهاً إسترلينياً (43 دولاراً)، وكان البائع يحمل اسم sultan1966.
بعد لحظات قليلة، وفي غمرة انشغال غرادل بتفحص الحجر والتمعن في خصائصه، اختفت الصور عن الموقع، ما يعني أن البائع ألغى عملية البيع. حاول غرادل العثور على الحجر من جديد على المواقع من دون فائدة، لكن لأن الرجل يملك ذاكرة بصرية قوية، فقد تذكر شكل القطعة وأين رآها من قبل: في كتالوغ الأحجار الكريمة القديم في المتحف البريطاني.
وللتأكد من الأمر، قرّر غرادل التواصل مع sultan1966، وكان غرادل يعرفه باسم بول هيغينز، لأنه اشترى منه سابقاً العديد من الأحجار الكريمة. وسأله غرادل عن سبب حذف حجر بريابوس من قائمة البيع، فرد عليه sultan1966 قائلاً إن الصّور نُشرت خطأً، وأن الحجر مُلك لشقيقته. كان التفسير مريباً ولم يُرح التاجر الدنماركي. لكنه قرر عدم اتخاذ أي إجراء والانتظار لمعرفة ما إذا كان sultan1966 سيعرض أي قطع فنية أو أثرية أخرى مشبوهة. وطال الانتظار حتى مرت أربع سنوات. عام 2020، رأى غرادل صورة لحجر كريم يمثّل الإمبراطور الروماني أوغسطس في كتاب يستعرض مقتنيات المتحف البريطاني، لكنه تذكر أنه شاهد الحجر نفسه من قبل على موقع إيباي. وبالبحث على الموقع، وجد الدنماركي أن الحجر بيع إلى تاجر أعمال فنية بريطاني يدعى مالكولم هاي. وبالتواصل معه، يصل غرادل إلى اكتشافه الثاني الذي لم يكن بعيداً عن شكوكه؛ البائع الأصلي ليس سوى sultan1966.
يقول غرادل إن الأمر كله حدث بمحض الصدفة. لكنه بدأ بالتنقيب بعمق في وثائقه التي جمعها خلال سنوات طويلة من ولعه بالأحجار الكريمة، محاولاً معرفة القطع الفنية التي سبق أن اشتراها من sultan1966، لكنه بفضل أوراقه القديمة يتوصل إلى اكتشاف آخر، هو اسم البائع الحقيقي وراء sultan1966، والذي كان يظن أن اسمه بول هيغنز، ولكن تبين أن اسمه الحقيقي بيتر هيغز. وحينها لم يربط غرادل بين الاسم وبين المتحف البريطاني، لكن المعلومة جاءت من تاجر آخر يعرف بالضبط من هو بيتر هيغز، وهمس بالأمر في أذن غرادل: "أنت تدرك أنه أمين المتحف البريطاني، أليس كذلك؟".
كان اسم بيتر هيغز قد اكتسب سمعته كخبير في تعقب التحف المسروقة حول العالم. وفي عام 2015، ساهم في إعادة تمثال مسروق عمره 2000 عام إلى ليبيا. وبالرغم من المعلومات المؤكدة حول منصب بيتر هيغز، قرّر التاجر الدنماركي أن يتواصل مع المتحف البريطاني طارحاً شكوكه، مزوّداً المتحف بكل ما يملكه من أدلة. وكان أن وصلت رسالته الإلكترونية إلى رئيس مجلس إدارة المتحف، جورج أوزبورن، الذي يقرّر على الفور فتح تحقيق في الأمر. ولكن التحقيق لم يسفر عن أي شيء، ويرجع ذلك، جزئياً، إلى أن العديد من القطع الفنية المسروقة لم تكن مسجلة رسمياً ضمن مقتنيات المتحف، إضافة إلى إمكانية المشتبه به بيتر هيغز في الوصول إلى قاعدة بيانات المتحف، وبالتالي التغيير فيها كما أراد، بما يوحي أن القطع المختفية فقدت منذ سنوات.
أعلن المتحف البريطاني رسمياً أنه لم يعثر على شيء يقود إلى المقتنيات الضائعة، لكنه أعلن أيضاً عن بدء تحقيق ثان، إلا أنه هذه المرة "سرّاً"، مع الإعلان عن تعيين أمين المتحف البريطاني بيتر هيغز كمشرف على التحقيقات. وتوصلت نتائج المحققين إلى فقدان 1161 قطعة من مقتنيات المتحف، لكن هيغز المشرف على التحقيقات ظل يؤجل نشر نتائج التحقيق أكثر من مرة بحجج مختلفة، إلى أن وصلت نتائج التحقيقات إلى المسؤول الأعلى عن إدارة المتحف هارتويغ فيشر، الذي أوقف بيتر هيغز مباشرة عن العمل وأبلغ الشرطة التي عثرت على أدلة واضحة في منزل هيغز، واتهم المتحف البريطاني أمينه بسرقة وإتلاف وصهر وبيع القطع الأثرية القديمة. ومن جانبه، أنكر هيغز جميع الاتهامات.
في النهاية، طُرد هيغز عام 2023، أي بعد أكثر من عامين من إرسال إيتاي غرادل رسالته إلى المتحف. وأمام الفضيحة العالمية، قدم هارتويغ فيشر استقالته من منصبه عام 2023، واعترف بأن المتحف "لم يستجب بوضوح كما ينبغي" حيال إخطاره بسرقات عام 2021، وبالتالي فإن "مسؤولية هذا الإهمال تقع في النهاية على عاتق المدير".
من ناحية أخرى، أكدت "بي بي سي"، الثلاثاء الماضي، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بدأ تحقيقاً في بيع مئات الكنوز من المتحف البريطاني لمشترين أميركيين، وأن وكالة إنفاذ القانون الأميركية ساعدت أيضاً في إعادة 268 قطعة يدعي المتحف أنها مملوكة له، وبيعت إلى أحد هواة جمع التحف في واشنطن العاصمة.
وصرح أحد هواة شراء القطع الفنية من مدينة نيو أورليانز الأميركية لـ"بي بي سي" بأن أحد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أرسل له بريداً إلكترونياً يطلب منه معلومات حول قطعتين اشتراهما من موقع إيباي، وحين رد المشتري قائلاً إن القطعتين لم تعودا بحوزته، لم يطلب مكتب التحقيقات الفيدرالي منه مزيداً من المعلومات.
كان المتحف البريطاني قد أعلن في البداية عن فقدان 1161 قطعة يقدر أنها مسروقة أو مفقودة، لكن هذا الرقم زاد في تحقيقات لاحقة ليصل إلى 1500 قطعة،استُردّ منها 626 قطعة حتى الآن، كما عُثر على 100 قطعة أخرى لم تُسترجع من مالكيها بعد. وتوقع المتحف البريطاني في بيان سابق له أن بيتر هيغز حصل على ما يقدر بنحو 100 ألف جنيه إسترليني من مجمل مبيعاته لمقتنيات المتحف المسروقة. ووفقاً لوثائق المحكمة في الدعوى المدنية التي رفعها المتحف ضد هيغز، فإن المتحف البريطاني يعتقد أن الرجل يمارس سرقاته منذ عشر سنوات على الأقل.