أكبادُنا.. أبناءُ الحياة
مصطفى توفيق أبو رمّان
يقول الشاعر حطّان بن المُعلّى الطّائيّ:
"لولا بنيّات كزغبِ القَطا رددنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لَكان لي مضطربٌ واسعٌ في الأرض ذات الطولِ والعرْضِ
وإنّما أولادنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرضِ
لو هبّت الريح على بعضهِم لامتنعتْ عيني من الغَمْضِ".
الأبناء والبنات وحدهم الذين يظل الأب بالنسبة إليهم رمزًا عالي المعاني، كريم المكانة حتى لو جار عليه الزمان كما يقول الشاعر نفسه في مكان آخر من قصيدته التي استشهدنا بها في بداية المقال: "أنزلني الدهـرُ على حُكْمِـه.. مـن شامخٍ عـالٍ إلى خـَفْضِ".
الأبناء والبنات وحدهم الذي يقبل الإنسان أن يكونوا أفضل منه حالًا، وأنجح إنجازات، وأكثر علمًا، وأوسع ذات اليد، وأعلى مقاما.
يفرح الأبُ.. وتفرح الأمُّ عندما يحقّق بناتهما، أو ينال أبناؤهما نجاحًا، أو درجة علمية، أو أي نجاح كان، حتى لو كان انتهاء مرحلة البستان (كي جي وَن).
كل الهموم تزول بمجرّد أن يرتدي واحد من أبنائهما، أو واحدة من بناتهما، (روب) التخرّج، أو ترتدي، أو يرتدي قبّعة المجد الجامعيّ.
ومثل لمح الأماني، سرعان ما يكبر الأولاد، وتقول لنفسك: يا إلهي.. أمس كانوا في القِماط.. أمس كانوا حولك يتعثرون وهم يتعلمون أولى الخطوات نحو أبواب الحياة.. وهم يزحفون محاولين إقناعك أنهم انتقلوا من مرحلة السكون فوق سرير الرضاعة.. أمس كانوا يلدغون بالحروف.. وكنّا نطير فرحًا مع أول تهجئة (بابا) أو (ماما) أو (جدّو) أو (تيتا)..
يكبرون (كل شِبر بنِذر).. تسيّجهم قلوبنا بكل محبة وحماية ورعاية وصدر حنون.. يكبرون بأعيننا.. بالشجن الطالع من شهيق أرواحنا.. بالمشاوير الكثيرة والمريرة على أطباء الليل، وطوارئ خفض الحرارة.. ومنقذات التباخير.. وصلوات التذرّع لرب الأكوان أن يحمي أبناء الحياة.. يكبرون ونحن نهشّ عنهم عثرات الدروب.. ومشاكل الأيام.. ونعلمهم حق الجيرة.. ونروّضهم أن يحترموا كبارهم.. ويرفقوا بأشقائهم الأصغر منهم.. وبكل طفل أصغر منهم.. نستعيد معهم حروف الحصّة الأولى.. ونلفّ لهم (ساندويشات) المدرسة الأولى.. ونقطع معهم الشوارع نحو جهات الأمان.. نرتقي بهم صعودًا في مدارج المُثُل العليا والمَكارم الرفيعة، ونغرس فيهم الفضيلة والرحمة سعيًا لبناء مجتمع فاضلٍ متحابٍّ معطاءٍ متقدّمٍ نفخر به بين باقي الأمم.
إنهم، أبناؤنا وبَناتُنا، حقًّا وصدقًا أكبادُنا تمشي على الأرض.. ثِمارُ قلوبِنا.. عِماد ظهورِنا.. هم لنا سَنا.. ونحن لهم سماءٌ ظليلة.. وأرضٌ ذليلة.. بهم نَصولُ على كل جليلة.. فإنْ غضبوا أرضيناهم.. وإنْ سألونا أعطيناهم.. وإنْ ضحكوا رقصت ضلوعنا جوّى الحَشا.. وإنْ بكوا غصّت أنفاسُ العافية وتعبت مجسّات الوجود..
هم الاستثمار الذي لا ينتظر الإنسانُ منه ربحًا أنانيًا.. أو بريقًا زائلًا.. أو إنجازًا سريعًا لا معنى فيه ولا قيم ولا احترام للسّوادي.
وإن "غالني الدّهرُ بوَفْرِ الغِنى" فلن أبالي، وسوف أرد بعالي الصوت: "ليس لي مالٌ سوى عِرْضي" وأبناءُ روحي وفلذات أكبادي.
أولادي الأحبة.. بناتي الغاليات.. أنتم وأنتنّ امتدادنا، أنا وأمّكم وأمّكنّ، في هذا الوجود، القطعة الغالية من قلوبنا.. السنابل الخضراء في صحراء حياتنا.. قرّة أعيننا ومهجة أرواحنا..
وحين تدير الحياة ظهرها لنا، فإننا نريدها كلّها بحلوها وحلوها وزهوها وأندى ما فيها لكم ولكنَّ.
خواطر جالت في بالي وأنا أتلقّى بفضل الله ومنّته ونعمته، دفعة واحدة، أخبارًا مفرحة من كبيري توفيق الذي أنهى متطلبات حصوله على درجة الماجستير وبقي عليه مناقشة أطروحته.. ومن ابني عبد الله الذي أنجز اليوم درجته الجامعية الأولى (البكالوريوس).. ومن ابنتي إيمان التي أكملت اليوم درجتها الجامعية الأولى.
لم تكن دروب نجاحات (دزينة) أولادي وبناتي سالكة.. ولكن الله منحني أكبر نعمة يمكن أنْ يفخر بها إنسان.. إنها نعمة الصبر المعطّر بالعزيمة والإرادة والرغبة بالتحدّي.. وهكذا بقيتُ أشجّعهم وأشجعهنّ.. وأشدّ من عزائمهم وعزائمهنّ.. أعدتُ الثانوية العامة لعيونهم غير مرّة.. سجّلت معهم في غير جامعة.. حصلتُ معهم، وأحيانًا قبلهم.. على درجات جامعية محفّزًا لهم.. مبلغهم أنّ من جدّ وجد ومن سار على الدرب وصل.. وأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة..
واليوم لا سعادة توازي سعادتي.. ولا مسرّات تبلغ مسرّاتي.. سعادة محصّنة بشكر الله.. مطرّزة بالتواضع وعدم المباهاة ولا الاستعلاء.. بل هو الشكر لله الذي أدعوه في عُلاه أن يديم النعم.. وأن يرفع عنّا وعن أحبّتنا في فلسطين الحبيبة الألَم.
لك الحمد ياااا الله.. لك مع كل سجود في صلاةٍ سجْدة شكر ورضا.. لك عناقيد الخشوع والخضوع والتضرّع أن تحمي أولادنا وبناتنا من كل مكروه ومن مخاطر كل تجربة.. فها نحن نستودعهم في عظيم عطائك وكرمك وحكمتك.. نطلقهم في دروب العمر ومكابدات العيش فهم لم يعودوا أبناءنا فقط.. إنهم أبناءُ الحياة.
يقول جبران خليل جبران:
"أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم. أنتم الأقواس وأولادكم سِهامٌ حيّةٌ قد رمت بها الحياة عن أقواسكم.. والحياةُ لا تَرْجِعُ إلى الوراء".