مهرجان الحشد في جرش
مصطفى توفيق أبو رمّان
على غير المتوقع، طالَ العدوانُ على غزّة وامتدَّ وتشعّبَ وصولًا إلى حرب التجويع خصوصًا شمال القطاع. العدوان المجرم طال البشر والحجر والشجر ومختلف موجبات الحياة وأركان الوجود، إذ يبدو أن العدو الصهيوني يريدها حربًا وجودية طالما أنه يشعر باحتمالات اندثار وجوده بعد الطوفان.
في ظل كل هذا وذاك، يبدو أن الحديث عن إمكانية إقامة دورة هذا العام من مهرجان جرش، هو تجديفٌ عكس تيار الوجدان الأردني المشغول عن بكرة أبيه بالشأن الفلسطيني إنْ في غزّة، أو في الضفة، وما تبع الحرب من تفاعلات لبنانية يمنية عراقية وغير ذلك.
صاحب القرار الأردني أدرك ذلك منذ اللحظة الأولى، وحرص، بالتالي، على تجنّب أي تصريح من شأنه أن يُفهم في السياق الخاطئ، أو أن يُستغل، أو يجيّر، أو يُباع ويُشترى، فالمواقف الأخلاقية الكبرى لا تُباع ولا تُشترى؛ هذا ما يعرفه يقينًا مدير المهرجان الموسيقي الملتزم أيمن سماوي، وهذا ما تعيه وزيرة الثقافة هيفاء النجار، وهذا ما يتوافق عليه الجميع رسميًا وشعبيًا.
أمّا وأن ذلك كذلك، ولأن المهرجان هو موسم سنويٌّ معيشيٌّ تفاعليٌّ لكثير من أبناء محافظة جرش الكبرى وبلداتها ونواحيها، ولكثيرٍ من فنانينا وفناناتنا، وحتى لبعض شعرائنا وكتّابنا الذين لا يحظوْن بِمنبرٍ آخر سواه، ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فقد كان لزامًا أن يظل السير في حقل ألغام الترقّب، وكمائن التفاصيل، محاطًا بالحذر الشديد، والتأمّل العميق، والحسابات الدقيقة، وهو تمامًا ما فعلته وتفعله إدارة المهرجان.
تتباين آراء الناس والمعنيين حول فكرة إقامة دورة هذا العام؛ فبين من يرى أن الناس تلغي حفل زفاف ابنها، أو تقتصره على المراسم الرسمية، إن كان في بيت جيرانهم عزاء (النائب حسن الرياطي نموذجًا)، وبين من يرى أن إقامة المهرجان قد تشكّل فرصة للأردن "يمكن استثمارها وتوظيفها لدعم وتبيين الموقفيْن الرسمي والشعبي المتعاطفيْن كليهما مع ما يجري في غزة"، وأن المهرجان يمكن أن يتجلّى بوصفه "امتدادًا مهمًّا لمنظومة الجهود الأردنية الكبيرة، إلى جانب الجهود السياسية والدبلوماسية والإغاثية والإنسانية والإعلامية التي يقدمها الأردن بمسؤولية عالية منذ بداية الاعتداء على غزة"، ومن بين هؤلاء، على سبيل المثال، د. خلف الطاهات العميد السابق لكلية إعلام جامعة اليرموك. بين هذا وذاك؛ بين رفض إقامته احترامًا لدماء أهل فلسطين وجراحاتهم، وبين ضرورة إقامته ليصعد بوصفه حشدًا شعبيًا، وصرخة فنية، وتحشيدًا إعلاميًا مؤازرًا لفلسطين وشعبها، يقف كثيرٌ من الناس حائرين بين الرأيين والموقفيْن المتباينيْن، علمًا أن تأجيل المهرجان، أو عدم إقامته ليست سابقة، ففي عام 1982، عام اجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت، لم تُقم دورة تلك العام. أتذكّر ذلك تمامًا، كما أتذكّر أن والدي، أطال الله في عمره، دعم في العام 1983، العام الذي تلا التوقّف، نشرة المهرجان، التي صدرت كاملة بدعمه، إضافة إلى تبرعه بحوالي 20 درعًا من الدروع التي تُوزّع على المشاركين في فعاليات المِهرجان.
إدارة المهرجان وصلت، على ما يبدو، لحلٍّ، أو حلول، قد يرى فيها الجميع، أو المعظم، منطقًا معقولًا، مقبولًا؛ منها إلغاء فاعليات المسرح الجنوبي، المرتبط أكثر من غيره من مرافق المهرجان وأماكن إقامته بالرقص الذي يتساءل بسام العموش حوله: "على ماذا نرقص؟ هل نرقص على جراحنا؟؟". ومنها استقطاب الفنانين الملتزمين من طراز اللبنانييْن مارسيل خليفة وأميمة خليل والفنان الفلسطيني عمّار حسن وغيرهم. ومنها التبرع بثمن اللوحات التشكيلية، على سبيل المثال، لأهلنا في غزّة، وحلول أخرى كثيرة، فمدير المهرجان ابن الفحيص التي سطّر مهرجانها السنويّ أروع آيات الالتزام القوميّ الإنسانيّ، والأردن لا يملك انفكاكًا عن قضيته الكبرى، وقضية الأحرار في كل مكان وزمان؛ إنها قضية فلسطين.. الاسم الذي كان وصار وسوف يبقى.. فلسطين التي أنشد لها شاعر كبير من طراز محمود درويش:
"عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ:
عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ،
أُمُّ البِدَايَاتِ.. أُمَّ النِّهَايَاتِ.
كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين.. صَارَتْ تُسَمَّى.. فلسْطِين.
سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ".