(راعية الغَمام) للدكتور أنور الشَّعَر... شهادة في إضاءة

بقلم الدكتورة جمانة السّالم - كليّة الآداب والعلوم التربويّة/ جامعة الشرق الأوسط

بعد أيام من بدء العدوان الأخير على غزة إثر عملية (طوفان الأقصى) نشر الدكتور أنور الشَّعَر قصيدته (طوفان عزة وكرامة)؛ فكانت البذرةَ الأولى لهذه المجموعة الشعرية الموسومة (راعية الغمام)، والمؤتلفة في ستّ عشرة قصيدة موضوعها الرئيس ذلك الحدث الجَلل، وما رافقه وتبعه من أحداث جسام، نقلتها أخبار حيّة ومشاهد دامية، ارتبطت بأشخاص وبمواقف، ووُثّقت بأقوال وبعبارات، وبالكثير الكثير من التفاصيل التي تابعها الشاعر عن كثب، وعايش دِقّها وجِلّها، وانفعل بها، وتفاعل معها؛ لتفيض شاعريّته قصائد اعتنقت القضيّة، وعانقت الرغبة في الحريّة، وأطلّت على قارئها بلغة جليّة سنيّة، تعكس فكرًا حرًّا مسؤولًا، وبصيرة ثاقبةً، ورؤية مستنيرة، تحيي في النفوس ما هو قارّ فيها بشأن شعر المقاومة، وترسّخ في الأذهان فكرة المقاومة الناعمة بالكلمة؛ انسجامًا مع واقع العصر، ومتطلبات المرحلة.

(راعية الغمام)، أولى قصائد المجموعة باختيار مقصود من الشاعر الشَّعَر، أكّده ارتباط إهداء المجموعة بهذه القصيدة:
"إليها... ترعى الغَمامَ
ومن كفَّيها ينهمِرُ المَطَر
ومن ثَغرها يبزُغُ الفجرُ
وفي حضنها تغفو البلابلُ
ويَسهرُ القَمَرُ"
وسرعان ما تفتح هذه العتبة المتفائلة الباب على مصراعيه ليكتشف القارئ أنه أمام تمجيد لحالة المقاومة التي تبدو في كلّ مرة سنيّة فتيّة: فكرة، وأداء، ورؤية، والنتيجة حتميّة، يستشرفها الشاعر في أول أبياتها:
"وصبية ترعى الغمام بغزّة حتى يفيضَ على حقول سنابلي"
وفي القصيدة كما في الواقع يواجه العدوّ المقاومة بشراسة، لكنها تقاومه، يخذلها صمت الأحبة (المتسربل) فتتصبّر وتتجاهله، ثم وفي ظلال معاني أسطورة (بروميثيوس)، ذلك البطل الذي ضحّى لأجل الإنسان وحريته ووعيه، بأن سرق النار من الآلهة وقدّمها للبشرية شعلة للعلم والمعرفة، فعوقب بأن قُيّد إلى صخرة كبيرة في جبال (الأولمب)، ليأتي نسر ينهش من كبده كلّ يوم إلى آخر الزّمان، ويصير رمزًا للخلاص من الظلام والظُلّام، وللسعي نحو الحريّة على مرّ العصور؛ في ظلال تلك الأسطورة تجيء خاتمة (راعية الغمام) متغزّلة بتلك الصبية من جديد:
"يا حسنها، ترعى الغمام بغزة كي يزهرَ الدحنون فوق مقاصلي"
والصورة فيها تجمع بين فكر واقعيّ ورؤيويّ في آن معًا؛ لأن ياء المتكلم في (مقاصلي) هي التي يضجّ بها كل صوت نسمعه يعلن رضاه عما يصيبه جرّاء فعل المقاومة الذي سيزهر بسببه الدحنون؛ لنغني مع الشاعر (نشيد النصر).
و(نشيد النصر) هي آخر قصائد المجموعة، فيها يستشرف الشاعر النصر الغزيّ الذي سيُفضي إلى نصر يعمّ أرجاء فلسطين، يطال أقصاها، وتزهو به مدنها كافة. في هذه القصيدة يتغنى الشاعر بالنصر الحتميّ مرسومًا في لوحات عديدة، تعجّ بالصور المعبّرة، وتزخر بالمعاني المؤثرة. (نشيد النصر) يؤرخ لطوفان الأقصى، ويروي قصّته كاملة بأدقّ أدق التفاصيل: الدوافع والانطلاقة، المواجهات والانتصارات، الآثار والتأثيرات، المواقف والنتائج، فيها يقدم الشاعر مواجيز أخبار الطوفان التي سبق أن قُدّمت تفاصيلها في قصائد المجموعة كلّها، وصولًا إلى آخر أبياتها بل آخر أبيات المجموعة:
"سنمسح أدمع الطفل الحزين ونرفع راية النصر المبين"
في صيغة جمعيّة تعكس التأييد والنصرة، والفرح بالنتيجة، والفخر بالمنجز.
أما التبصّر في سائر قصائد المجموعة الواقعة بين تلكما القصيدتين فيفضي لا محالة إلى إدراك قدرة الشاعر أنور الشَّعر على استقصاء تفاصيل الحدث، ومتابعة تداعياته التي ارتبطت على سبيل المثال بأشخاص ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، حملت قصائد في المجموعة أسماءهم: وائل الدحدوح الذي أصيب في كلّ شيء عدا جلَدِه وصبره، وكرامته ورضاه، ويوسف الأشقر الحلو صاحب الشعر (الكيرلي) فَقيد أمه وأبيه، والدكتورة المنقذة أميرة العسولي، والمقاوم العنيد صاحب الظل الأنيق، وريم روح روح جدّها الحنون، والطفلة البريئة صاحبة السؤال الموجع: جدّ أم حُلُم؟... وغير هؤلاء كثيرون، صدحت أصوات رضاهم عن فعل المقاومة، وفخرهم بمنجزها العظيم؛ فأسكتت الآهات والأنّات والصرخات وجعًا على الدمار والخراب الذي خلّفه العدوان الهمجيّ الغاشم، وحرب الإبادة الجماعية ضدّ أهل غزة.
وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى تلك المشاعر العظيمة التي تعتري من يُطالع الصور التي رسمها الشاعر لأبطال (طوفان الأقصى)، أبناء الأرض، وأصحاب الحق، وهم يقاتلون دفاعًا عن أرضهم بشجاعة واستبسال وصبر، تقابلها صور سخرية من ذلك العدو، وشماتة به، وقد حطّم (الطوفان) أسطورته الكاذبة، فبدا ضعيفًا هشًّا رغم جبروته وغطرسته، منكسرًا ذليلًا رغم عدده، وعَتاده، وعُدّته.
ولا يملك قارئ قصائد (راعية الغمام) إلا أن يستشعر أنفاس شعرائنا الأوائل، وهم يتغنّون بانتصارات المسلمين على جيوش المغول، والتّتار، والصليبيّين، يستحضر شاعرنا ألفاظها المعبّرة الجزلة، وصورها الديناميّة الحيّة: لونًا، وصوتًا، وحركة، يُطعّمها من معجمه الشعريّ الغنيّ بلغة العصر وبمصطلحات المرحلة، ويطوّع أبياتها موسيقيًّا بإيقاعات خارجيّة جليّة، أو داخليّة خفيّة، تصنع تشكيلات فنيّة عديدة مدهشة، يحمّلها الشاعر الشَّعر مشاعر جيّاشة، وعواطف دينيّة، ووطنيّة، وقوميّة، وإنسانيّة، يُبرِز كلًّا منها في مكانها الصحيح، وفي سياقها المناسب.
ويؤكد إنعام النظر في قصائد المجموعة أنّ شاعرنا ما ينفكّ حريصًا كما أسلفت على توظيف مفردات المرحلة وتراكيبها بقدرة إبداعيّة فائقة، يمجّد فيها معجم الطوفان؛ فهنا – مثلًا - قصيدة عنوانها (إنه الصفر) يتغنى فيها بمسافة الصفر التي يضرب الأبطال منها عدوّهم، وفيها:
"أشهِرْ رِماحَكَ
علِّمِ الأجيالَ كُنهَ الصِّفرِ
وانقُشْ فوقَ زِندِ الشَّمسِ:
أنَّ عَدُوَّنا... نَمِرٌ من الوَرَقِ"
وهناك أخرى توثّق الدمار الذي لحق (ميركافا)، بقذائف (شواظ وياسين):
"يا بؤس ميركافا ومن ركبا من جولة أولى بغى هربا
بقذيفة الياسين صُبّ عذا بَكَ فوق هاماتٍ غَدت أربا
صفر المسافة، فازرع الرّهبا بشواظِ حقٍّ ترتدي الغضبا
ظنوّا بميركافا لهم غلبٌ يا بؤس ميركافا ومن ركبا"
وفي لوحات (مرايا الطوفان) ومشاهدها يرى كلّ نفسه: العدوّ والصديق، والمنافق والصادق، والخائن والنّزيه، والمتّهم والبريء، والظالم والمظلوم، وكلّ يلقى على لسان شاعرنا ما يستحقه؛ فيَظهر غيظ وحقد، مقابل إعجاب وفخر، وتطفو شماتة وسخرية، مقابل تصبّر وبشارات، وتنكشف مشاعر صدمة بخذلان الأخوة (بنو أبي)، مقابل ثقة بـ (أسمى الرجال). وفي هذه القصيدة نفسها كما في (وقيعة عز) يوثق الشاعر من جديد تاريخ الحدث الذي يشكل بداية ونهاية، ويقسم على ذلك بقوله:
"لعَمري وقيعةُ عزٍّ أعَزّتْ عزيزًا، أذَلّت خذولًا ذليلا"
أمّا (رباعيات الطوفان) فأكرمْ بها قصيدة هادرة هدير بحور الشعر العربيّ التي جُمعت فيها، ونُظمت عليها لوحاتها العشر بعناوين مختلفة، ومضامين متنوعة! يجمع بينها أنها تصوّر عن كثب تفاصيل المعارك على أبواب الأنفاق، يقودها (أُسْد حفاة) هم جند الله في الحرب، يناجيه الشاعر أن يحفّهم وينصرهم وهو الرحمن العادل الذي يعبدونه ويخلصون في طاعته. ولهذا الغرض ذاته يخصّص قصيدة (إلاكَ)، ويختمها بعد مناجاة طويلة بقوله:
"ما ناصرٌ إلاكَ يا سَنَدي أعداؤنا ليسوا محاميدا
ربي، ومن إلّاك ينصرنا مَن حولنا يبغون تهويدا"
وفي قصيدة على البحر المتدارك يتدارك الشاعر الشَّعر بقيّة عقول فينا، تكاد تُفقد تمامًا ونحن نرقب مفارقات عديدة رسخها (طوفان الأقصى)، ينسجم معها عنوان القصيدة (عدل جائر)، وفيها يتجرّأ على الظلم والبغي الذي مارسته وتمارسه منظمة العدل الدولية ومجلس الأمن الدولي وغيرهما من منظمات هيئة الأمم المتحدة، التي يفترض أنها قامت لتحقق دلالات اسمها على أبعد تقدير، فقال فيها بعد أن تساءل:
"أكذا العدل يا (هيئة الأمم) فأجزتم دومًا سفك دمي
.......................... .........................
يا لُؤمَ صَنيعكِ ذا، وأيا بُؤْسَ من تُدعى (هَيئَةَ الأُمَمِ)"
ويأبى الشاعر إلا أن يؤكد على امتداد أبيات قصائد مجموعته (راعية الغمام) ثقافته الواسعة وعلمه الثرّ، ووطنيّته الصادقة، والتحامه بعروبته، ظهر ذلك في متابعاته الحثيثة لكل صغيرة وكبيرة دارت وتدور في وطنه فلسطين بعامة، وفي غزة بخاصة، وتعدّ مطوّلته (رباعيات عرين الأسود (جنين)) خير شاهد على ذلك؛ إذ إنه فيها وثّق العلاقة التاريخية الأزليّة الوطيدة بين غزة وجنين: المدينة والمخيّم، متغنّيًا بأفعال كتائب المقاومة في جنين بالتزامن مع ما كان يحدث في غزة، وبدا - وهو يُهديها إلى ابن جنين الأستاذ الدكتور صلاح جرار– متفاعلًا تفاعلًا إيجابيًّا مع مبادرة الشاعر الدكتور جرار والشاعر سعيد يعقوب جمْعَ القصائد التي عبّرت عن حادثة السابع من أكتوبر في ديوان خاص صدر أواخر العام المنصرم بعنوان (ديوان طوفان الأقصى)، وقَع في أربعمئة وأربع عشرة صفحة من القطع الكبير، وشارك به مئتان وثلاثون شاعرًا، كان من بينهم الدكتور أنور الشعر بقصيدته (طوفان عزة وكرامة).
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن قصيدة الشّعَر (رباعيات عرين الأسود (جنين)) مكوّنة من عشر رباعيات، كلّ منها على بحر عروضيّ مختلف وبقافية مغايرة، وقد ارتقى بها شاعرنا في مجموعته (راعية الغمام) من أصل رباعيّة واحدة شارك بها في ديوان (رباعيات جنين)، الذي سبق أن جمعه وحرّره الشاعران جرار ويعقوب، بمشاركة مئة وخمسة وأربعين شاعرًا من مختلف الدول العربية، كلٌّ برباعيّته.
وبعدُ، فقد أردت لهذا التقديم أن يكون إضاءة على (راعية الغمام) المجموعة الشعرية الرائدة في موضوعها الذي نعيش أحداثه ونحاول أن نتعايش معها؛ ووجدته رُغمًا عني يستحيل إلى شهادة عفويّة صادقة، ويسير بانسيابية ما كان بإمكاني التصدي لها أو السيطرة عليها، لعلّها انسجمت مع انسيابية قصائد المجموعة، وإيقاعاتها المؤثرة، ونَفَس صاحبها الطويل، وهو يغذّ الخطا ملاحقًا أحداثًا جسيمة متسارعة، منفعلًا بها ومتفاعلًا معها، مطوّعًا - كما ذكرت سابقًا - معجمًا شعريًّا غنيًّا، وشاعريّة مرهفة، وثقافة واسعة على مستويَي الشكل والمضمون، تأتّت بأشكال متنوعة، وبرزت في تفانين عديدة، وقد عرّجتُ آنفًا على المضامين التي حملت كل شاردة وواردة فيما يتعلق بالموضوع الأساسي والفكرة الرئيسة لقصائد المجموعة، وألمحتُ إلى جوانب فنية عديدة غير منتهية، برز من بينها معجم شعري طوفانيّ غنيّ، وخوض واعٍ مسؤول في بحور الشعر العربي، وتماهٍ عجيب في الأساطير، خصّب رمزيّتها، ووسّع دلالاتها، وجنّبها الجمود، ويبرز كذلك انغماس في تناصّات مندغمة بالواقع المعيش: دينيّة، وتاريخيّة، وأدبيّة، وسياسيّة، وتفيض بين هذا وذاك صور فنيّة مدهشة، تأخذ بالألباب وتعلَق في الأذهان، معبّرة عن وجهة نظر الشاعر ورؤاه، وحاملة فيما تحمل وجهات نظر ورؤى جمعيّة، جعلت الشاعر أنور الشَّعر لسانَ حالنا، نقرأ من قصائده، ونردّد معه:
"سنرفع راية النصر المبين لبحرك، غزة المجد المصون
نشيد النصر والأعلام تزهو على الهضبات والسهل الحصين
........................... ...............................
سنمسح أدمع الطفل الحزين ونرفع راية النصر المبين"
مستمتعين بالتوقيعات السيمفونية الخاصة لأدب المقاومة في نفوسنا؛ لأنّ الشكل الثقافي للمقاومة ملاذ من لا يستطيع حمل السلاح في أرض المعركة، لتكون الكلمة في الشعر بخاصة، وفي الأدب بعامة سلاحه المكين، يعبّر بها عن الحقوق، ويصوّر بها أشكال الصمود.
***