«اليوم التالي للحرب في غزة» يوم مزيف
عمر عليمات
«السياسيون يعتقدون دائماً أن الوقت في صالحهم، وأنه يمكنهم تأجيل القرارات الحاسمة إلى ما بعد غد. ولكن غداً يمكن أن يكون متأخراً جداً»، فمع كل شمس تشرق على غزة يصبح فيه الحديث عن «اليوم التالي للحرب» نوعاً من الكوميديا السوداء، التي لن تزيد الأمور إلا تعقيداً وهروباً إلى الإمام.
عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من الجرحة والنازحين، وما زال العالم مشغولاً باليوم التالي للحرب، وكيف ستدار غزة في المستقبل، دون أن يلتفت أحد إلى أن هذا المستقبل لا يمكن بناء مداميكه بدماء البشر ومعاناتهم وآلامهم، فمع كل يوم جديد في غزة هناك مدماك جديد يتم تشييده في ذاكرة الغزيين مجبول بذاكرة عميقة ستنقل الآلام والغضب والعنف عبر الأجيال.
الذاكرة الجمعية الفلسطينية خاصة والعربية عامة مرت بثلاث مفاصل رئيسية، نكبة 1948، ونكسة 1967، وتمر الآن بالإبادة الجماعية 2024، وما يجعل الأخيرة أكثر فداحة وألماً أنها معاشة لحظة بلحظة، فمع تقدم وسائل الإعلام أصبح الجميع يعيش الحدث بتفاصيله، ولا يحتاج لمن يروي فضاعته وفداحته، فالرواية ليست كمشاهدة أشلاء الأطفال والنساء تملأ كل شبر من تراب قطاع غزة.
الكل يتحدث عن غزة بعد الحرب، ولكن ماذا عن غزة اليوم ؟، وهل كل هذا الموت والألم لا يكفي ليصحو الضمير الإنساني العالمي ؟، وهل لا أحد حقاً لديه القدرة على كبح جماح التوحش الإسرائيلي المنفلت من عقاله ؟، ولماذا هذا الإصرار على غد وكأن الزمن توقف عند لحظة معينة، وسينتظر حتى يتفق العالم على ما يريده لغزة غداً.
المجتمع الدولي عليه أن يدرك أنه يستطيع بناء المدارس والطرق والمباني بعد تدميرها، ولكنه لن يبني الجسور الإنسانية بعد هدمها، وإغراقها في بحر من الدم، فكل ما يفعله هو دفع الفلسطينيين إلى فرضية «إما نحن أو هم»، فأي سلطة أو جهة هذه التي ستأتي غداً لتحكم غزة ؟ وكل بيت من بيوتها فيه يتيم أو أرملة أو أب مكلوم أو أم ثكلى أو طفل يحمل في صدره غضباً كالقنبلة الموقوتة لا يُعرف متى تنفجر في وجه الجميع.
بعد ثمانية أشهر من القتل والتدمير الممنهج وغض العالم الطرف عن كل ما يجري في غزة يبدو أن غداً سيأتي متأخراً جداً، وقد لا يأتي أبداً، فكل ما يفعله المجتمع الدولي هو مراكمة الغضب وتضخيم الشعور بالانتقام، حتى ولو هدأت الأمور لبعض الوقت، فلن يكون سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، فلا الاحتواء سيجدي نفعاً ولا محاولة تجميل الواقع ستفي بالغرض، فهناك جيل كامل غُرست في أعماق ذاكرته مشاهد لن تُمحى وغضب لن يزول ولو بعد عقود.
باختصار، اليوم التالي للحرب، ليس سوى يوم مزيف، فالخطيئة التي ارتكبها سيذكرها التاريخ بكل تفاصيلها، ولن يكون «اليوم التالي للحرب» سوى مرحلة هدنة قبل أن يرى الجميع حجم الكارثة التي ستقذف حممها ولو بعد حين، فما نفع الغد إذا كان اليوم غارقا بالدم.