خطة بايدن الغموض البنّاء
إسماعيل الشريف
من مصلحة الولايات المتحدة حل أي مشكلة في العالم، ولكن من مصلحتها أيضًا أن تمسك بخيوط المشكلة وتحركها حسب مصلحتها القومية - هنري كيسنجر.
عرض بايدن خطته الغامضة لوقف الإبادة الجماعية التي تجري في غزة، ومنذ ذلك الحين يحاول المحللون فك طلاسم هذه الخطة!
ما قام به بايدن مقصود تمامًا، وهو جزء من السياسة الأمريكية!
ينسب إلى الثعلب كيسنجر مصطلح «الغموض البنّاء»، ويقصد منه استخدام لغة غامضة أو ملتبسة في الخطاب السياسي بهدف إخفاء النوايا الحقيقية أو تعقيد الأمور لتعزيز أغراض سياسية غالبًا ما يُغفل عنها أو يُستهان بها. يخدمهم هذا الغموض بحيث يجعل من الصعب فهم مواقفهم الحقيقية أو التنبؤ باتجاهات سياساتهم.
ويستخدم هذا الخداع لتجنب المساءلة أو الرد على أسئلة حاسمة وتحقيق المرونة، كما ويُستعان به لإخفاء العجز عن حل قضية خلافية أو الحصول على تنازلات، أو تأجيل بحث نقاط معينة يمكن إعادة التفاوض بشأنها أو إلغاؤها بمرور الوقت.
ويترك هذا الغموض فسحة للمحللين والمؤرخين لمحاولة تفسيره. بمعنى أبسط، هو تطوير لمبدأ التقية عند الشيعة، من حيث أن لا يكون ما يظهره الشخص واضحًا وقابلًا للتأويل، ويبقى ما يبطنه حكرًا عليه!
والأمثلة كثيرة على هذا المبدأ، أبرزها قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي نص على انسحاب «إسرائيل» من أراضٍ احتُلت في النزاع الأخير. وقد حُذفت «ال» التعريف بهدف المحافظة على الغموض في تفسير هذا القرار. وكذلك جميع الاتفاقيات الفلسطينية مع الكيان المحتل كانت على هذا المنوال، حيث لم تحل أي من القضايا الرئيسية، بل ضمنت فقط مواصلة التفاوض لأجل التفاوض.
وفي حرب الخليج الأولى عام 1990، استخدمت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية مع الرئيس صدام حسين، فأوقعته في فخ اجتياح الكويت. قام صدام حسين باستدعاء السفيرة الأمريكية في بغداد وتحدثا عن التوتر بين الجارتين، ففهم منها صدام أن الولايات المتحدة لن تتدخل في أي حرب بينهما. تكشف الوثائق السرية السوفييتية أن وزير الخارجية جيمس بيكر أرسل رسالة سرية إلى صدام حسين قال فيها بالحرف: «إن الخلاف بين العراق والكويت هو مسألة داخلية لا علاقة للولايات المتحدة بها، ولكنها تشدد على أن يتم حل الخلاف بالطرق السلمية والمفاوضات». استنتج صدام من حديثه مع السفيرة وهذه الرسالة أنهما بمثابة الضوء الأخضر لاحتلال الكويت وبقية القصة معروفة، فقد كان من نتائج الاجتياح احتلال العراق وخسارة العرب لبوابتهم الشرقية، ومن ثم الربيع العربي، وتوسع إيران، واتفاقيات السلام، وتدمير سوريا، وإضعاف مصر لضمان السيطرة الصهيونية على المنطقة، وأخيرًا وليس آخرًا طوفان الأقصى.
بايدن لا يكترث أبدًا للدماء الفلسطينية، ولكن للولايات المتحدة مصلحة مباشرة في وقف الحرب، ومنها:
- تقليل خسائر الكيان المحتل، الذي فشل في تحقيق أي من أهداف الحرب، وفقد سيطرته على شمال فلسطين المحتلة، وتم حظره في البحر الأحمر.
- محاولة بايدن استعادة دعم الشباب والعرب والمسلمين والملونين الذين عزفوا عنه نتيجة مشاركته في الإبادة التي تجري في غزة.
- النمو المستمر للحركات الشعبية المناهضة للحرب والاحتلال الصهيوني.
- إلقاء ظلال هذه الحركات على كبريات المنتديات السياسية المهمة.
- زيادة عزلة الكيان المحتل في المجتمع الدولي.
- الخلافات التي تعصف داخل إدارته واستقالات احتجاجًا على الدعم غير المحدود للكيان.
ونرى بشكل واضح سياسة الغموض حين يتمسك بايدن وإدارته بأن المقترح هو مقترح الصهاينة. فيرد نتنياهو وعصابته حتى كتابة هذه السطور بأن هناك تباينًا بين وجهات النظر الأمريكية والصهيونية، وأنه لا وقف دائم لإطلاق النار، وإنما هدنة. فكيف يكون مقترحًا صهيونيًا والصهاينة لم يوافقوا عليه بعد؟
يحاول نتنياهو استغلال هذا الغموض لإطالة أمد الحرب، لأنه يعلم بأنه إذا حصل وقف لإطلاق النار سيخضع وكبار قياداته العسكرية للمحاكمة بسبب التقصير في 7 أكتوبر. كما يحاول استغلال الوقت لإرضاء كافة حلفائه في حال أجبر على الموافقة على وقف لإطلاق النار، بما في ذلك الدعوة لانتخابات مبكرة. أما بايدن، فيريد من هذا الغموض محاصرة نتنياهو على أمل ظهور بديل أقرب للولايات المتحدة، والضغط على حماس للموافقة على هدنة قد لا تفضي إلى وقف إطلاق النار.
فالحذر مطلوب من حماس بعدم الوقوع في الأخطاء السابقة، وأن تكون بنود أي اتفاق مستقبلي واضحة لا تخضع للتأويل، وعدم الوقوع في فخ العدوين الأمريكي والصهيوني اللذين لهما تاريخ طويل في الكذب. فحماس خرجت منتصرة، والمنتصر يفرض شروطه، وتعرف حماس أن أي تنازل عن وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب الصهاينة من قطاع غزة، وتخفيف الحصار وإعمار غزة، سيكون خيانة للدماء الزكية التي سالت في غزة.