سبات حزيران المديد
رمزي الغزوي
مع أن هزيمة الخامس من حزيران1967 تكبرني بخمس سنوات، إلا أني ما زلت أراها طازجة ساخنة لم يبرد طلق مخاضها، ولم يجف سيل الدم عن عقبيها، ولم تنكمش مشيمتها، ولم يهدأ نفث زفيرها وشهيقها الملتاع. طازجة أحسها كجرح مرشوش بملح وزجاج مبروش. نحن ولدنا شيوخا بعكازات عوجاء، واحدودبت قاماتنا تحت أثقالها.
وإذا كانت كل مصيبة تبدأ كبيرة وبعدها تضمحل شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى وتندمل، إلا هزيمة حزيران التي ولدت كبيرة، وازدادت ثقلاً مع كل دقيقة علقم تمر في ميناء ساعاتنا، وكلما قلنا ستزول سحابة الشوك هذه؛ تبرعمت حولها الهزائم، وخرجت من جنباتها فسائل الانكسارات، وكأنه كلما دقَّ الكوز بجرة حزيراننا؛ امتلأت وجوهنا دموعاً، وأجهشنا بالوجع حدَّ التراقي؛ فعلَّ الوجع يحزّ فينا جلداً، وعلَّ الألم يهزُّ فينا شَعراً بات شوكاً.
ولأن العرب فنانون في رشم الموت بالسكر، وفنانون بذر الرماد في العيون، وفنانون في تدبيج التسميات والألقاب، فقد سموا هزيمة حزيران بالنكسة، في إشارة أن هذه الحرب العابرة، ما هي إلا كبوة جواد، ما يلبث أن ينهض يكمل مسيرته المجيدة نحو السؤدد، وهذا ما ضاعف من هزائمنا، فإذا كان مواجهة الهزيمة تتطلب أن تعترف بها أولاً، كما أشار ميكافلي بكتاب الأمير، فإن أمة العرب ضحكت على ذقن حالها، فدلعت هزيمتها بالنكسة، كما سمت سابقتها بالنكبة: مصيبتنا أننا لا نسمي الأشياء بأسمائها.
اليابان خسرت حربها، لكنها نهضت من كبوتها ونكبتها قوية مزدهرة، وكذلكم ألمانيا وغيرها من شعوب العالم، إلا نحن فهزيمتنا لا تتلاشى إلا لتكبر من جهة أخرى، ولا تذبل إلا لتتناسل إلى هزائم مبثوثة في كل الجنبات: فكم نكسة مرت بنا عقب حزيران، من اجتياح لبنان حتى جرح العراق الأخير؟!.
قديما كنا نقول إن حصرم هذا الشهر (العنب قبل نضجه) سيبقى حصرما ما ظلت الدوالي، ولن تنضجه عنباً كل شموس العالم حتى لو ساطته بلفح حرها، وستظل أسنان أجيالنا القادمة، إن نبتت لهم أسنان ستضرس بخطيئة الآباء، وملح بارودهم المبلول.
اليوم صرنا نرجو ألا ينضج حصرمنا خوف أن نخمّره في الأقبية نبيذا مغشوشا فاسدا لسكرة تدخلنا في سبات مديد.