«الرأي والرأي الآخر» كما أراده عازر

بشار جرار

كأردني، كنت ومازلت أفاخر زملائي من الصحفيين العرب في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بأن صاحب مقولة «الرأي والرأي الآخر» هو الجميل، جميل عازر. قامة أردنية سامقة من الحصن «هيبوس» إحدى الأكروبوليس الأردني (تحالف المدن العشر جنوب الإمبراطورية الرومانية، بمعنى «روما» أيام زمان لا زماننا).

الاعتزاز الآخر أسجله من على منبر أم الصحف الأردنية -الدستور الغراء- الاعتزاز بصحيفة «الرأي» راية الموقف وسيف الكلمة التي ما كانت إلا الحصن المتقدم، الدرع الواقية والسد العالي أمام كل من رمى الأردن ولو بوردة فيها شوكة.
الأستاذان محمود الكايد وجميل عازر وأعلام أردنية حاضرة وأخرى في دار الحق مازالت أيضا حاضرة في وجدان الأردنيين، في الوطن والمهجر. الرأي كان عندهم حقا رأيا، والآخر عندهم كان حقا مستحقا لأن نستمع إليه، وأحيانا ننصت فنلتقي على «كلمة سواء».

لن أسمح لنفسي بأي محتوى سلبي يعبر عن موقفي إزاء عدم التزام البعض بهذا الشعار الرائع «الرأي والرأي الآخر»، لكني استميح أستاذنا عازر ومنتسبي مدرسته الراقية في الصحافة والإعلام قبل أن يسموها اتصالا جماهيريا ويصير الاتصال تواصلا، فتتحول شاشات الدورة البرامجية الفصلية -ثلاثة أشهر- وساعات البث اليومية المحدودة يوميا بثماني ساعات التي تبدأ وتنتهي بالسلام الملكي، تتحول إلى فضائيات ومن ثم منصات فيها مساحات يذبح فيها البعض على مذبح «الرأي والرأي الآخر» آراء وحقائق الجميع عدا ما يراه حقا مطلقا.

لم أحظ بشرف السلام على أي من هاتين القامتين، لكن زملاء وتلامذة لهما مدعوون للقول همسا وسط هذا الضجيج والصخب الذي يتوسل اللايكات والتريندات الرخيصة، مدعوون إلى تذكير الناس أجمعين ومن بينهم إعلاميون وأكاديميون، بما هو الرأي وما هو الفارق بين إبداء الرأي أو عرض فكرة أو التقدم باقتراح وبين التنظير الفظ والتأطير الفج، التحشيد أكان تبشيرا أم تنفيرا. كلنا مدعوون مساءلون أن نعرّف من هو «الآخر». «الآخر» ينبغي أن يكون أولا وآخرا إنسانا لا شيطانا ولا «روبوتا». الآخر لا بد أن يكون معترِفا بي وبوطني، معترفا بحقي المطلق بالدفاع عن نفسي وأسرتي ومعتقدي وبلادي، بكل الوسائل المتاحة أخلاقا وشرعا وعرفا وقانونا.

كنت الشهر الماضي في جولة ميدانية مهنية في القارة السمراء. سمحت لنفسي بالتفاخر بالشعار والتباهي بأردنية صاحبه، عازر. لكني حاورت الزملاء الأفارقة بأن كثيرين للأسف يستغلون الشعار بحسن أو سوء نية، وأنه من واجب المؤسسة الإعلامية عدم الوقوع في مغالطة فتساوي هي بمثابة إيذاء الذات حيث تساوي -باسم ما تظنه مهنية وموضوعية- بين الرأي الحر ونقيضه وهو «رأي» مدعي الحقيقة من مصادري كل الآراء المخالفة أو حتى المغايرة لهم. فلا مكان -لا باسم الحرية ولا الديموقراطية ولا حقوق الإنسان ومنها التعبير- لا مكان أبدا لمروجي الأكاذيب والأضاليل. فكما عانت البشرية لقرون من الأنبياء الكذبة والسحرة والمشعوذين والدجالين ما زالت مطاردة مستهدفة بأمثالهم، لكن بدلا من دخان طبخاتهم السحرية يستخدمون الأضواء فيما يعرف بـ «غاس لايتينغ» وهو الضوء الشديد الذي يستخدمه الصيادون حتى تتسمر الطريدة في أرضها فيعاجلوها برصاصة في القلب أو بين العينين. ولا يخجلون بعدها بنصب جثة غزالتهم -الطريدة- على سيارات الدفع الرباعي الخاصة بهم على اعتبار أن الصيد هواية لا جريمة قتل حتى وإن كان صيدا جائرا أو دون حاجة لإطعام مسكين، بل مجرد التباهي بما يملكون من قوة نارية وأدوات خداع..فلا يطلقن البعض رصاصهم بأدينا على ما نملك من كلمة وصوت وصورة وهذا الذي يسمونها «إنفو غرافيكس»! لا داعي للانبهار بالغرافيكس «الرسمة ثابتة أم متحركة» فالأصل دائما المعلومة وجذرها التاريخي كان وسيبقى، الكلمة..