فراغ «الهندزة» لم يملأ

بقلم رمزي الغزوي

اليافطة التي رفعها الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون على باب منزله قبل أكثر من 2400 سنة وقال فيها: (من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا)، ربما تكون واحدة من أسباب عديدة جعلت الكثيرين يتهافتون على الالتحاق بتخصص «يهندس» العالم ويهندزه ويجعله أكثر فائدة ونفعاً وقوة وجمالاً. 

تذكّرت تلك اليافطة الغريبة التي سرد قصتها العلامة ابن خلدون، حين اطلعت على نشرة إرشادية صادرة عن نقابة المهندسين الأردنيين، وتؤكد أرقامها وبياناتها، أننا نعاني إشباعا كبيراً في كافة تخصصاتنا الهندسية وتفرعاتها.

ذلك مؤلم، والأكثر ألماً أننا صرنا نملك أعلى نسبة مهندسين بالنسبة لعدد السكان في العالم، وبواقع مهندس لكل 40 مواطناً، أي أنها ستكون صائبة اليافطة التي ستكتب على كل بيت من بيوتنا (لدينا مهندس أو سيكون لدينا في القريب). فعدد أعضاء نقابة المهندسين يقترب من 200 ألف، وسينضم إليهم في غضون 4 سنوات أكثر من 50 ألفا ممن هم على مقاعد الدراسة داخل البلد وخارجها. 

مع أهمية الهندسة وحيويتها، وقدرتها على بناء العالم، وجعله مكانا أفضل للعيش، إلا أن واقع الحال يجعلنا نتساءل بمرارة: لماذا وصلنا إلى هذا النقطة من هذا الإشباع؟ وهل ما وصلنا إليه يعد حالة صحية؟. ولماذا لم تنعكس كثرة مهندسينا على جودة حياتنا وسهولتها وقدرتنا على توظيف واستيعاب ما يضعنا في مقدمة بلدان العالم. 

للأسف الشديد، فالكل منا يعلم أن ذلك العدد العرمرمي جاء بسبب العشوائية وغياب التخطيط. وهو انعكاس حقيقي لمجتمع ما زال يؤمن بفخامة ورنين الألقاب وفشخرتها وبهرجتها، ويسعى إليها رغم كساد سوقها؛ لأنه يشعر أن حجم فخر الوالدين والأهل أكبر حين يتخرج الولد مهندسا.   

غياب التخطيط الإستراتيجي رافقه غياب للاستثمار الحقيقي لهذا الثروة الكبيرة في الأعداد، التي لو وجهت لتخصصات حرفية فنية مهنية؛ لكان وضعنا الآن مختلفا. فلو أن لدينا فنيين وحرفيين بنصف عدد مهندسينا؛ لربما لكنا قادرين على وقف نزف المليارات التي تضخها العمالة الوافدة خارج البلد سنويا.

قبل خمس سنوات أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أن التوظيف في الحكومة الفدرالية سيكون على المهارات لا على الشهادات. وهذا مؤشر عالمي دقيق. أي أننا وفي ظل التنافس الشديد على الوظيفة؛ سنجد أن الشهادة هي آخر ما سينظر إليه رب العمل. المهارة والتميز والإبداع والقدرة على التواصل ستكون مسوغات الحصول على الوظائف القادمة. 

ربما علينا اليوم أن نعيد كلمة الهندسة إلى مصدرها الأساسي الذي جاءت منه، فهي كانت الهندزة باللغة الفارسية. وتعني الجودة والتجويد والعمل بحرفية ومهارة. علينا اليوم أن نواجه إشباع الهندسة بفراغ الهندزة الذي لم يُملأ بعد.