داودية …. ظلموني والملك الحسين انصفني

كتب: محمد داودية

 في السادس من نيسان 1998 كتبت رسالة تظلّم الى الملك الحسين. فالملك الهاشمي ملك الإنصاف ورفع الظلم. يفتنه ان يعيد الاعتبار لمظلوم وان يحقق له العدالة.  

حرصت على ان تكون الرسالة الى الملك الحسين قصيرة، فقد تشرفت بالعمل معه وفي ظلاله بموقع "مدير الإعلام والعلاقات العامة للديوان الملكي الهاشمي".

كان خالد الكركي رئيس الديوان الملكي. وبالمناسبة فإنني وغيري كثيرون، ممن يعرفون الدكتور خالد الكركي وتعاملوا معه وزاملوه وجربوه، يعتبرونه بحق من انبل ابناء الأردن والأمة ومن أشرفهم. 

وكان معي في دائرة الإعلام ثلاثة زملاء على درجة عالية من الإحترام، سعدت بالعمل معهم هم الذوات: علي الفزاع وتولى قسم الصحافة العربية. وامجد العضايلة وتولى قسم الصحافة الوطنية. وحسين بني هاني وتولى قسم الصحافة الأجنبية. 
حرصت على كتابة رسالة قصيرة موجزة، لأن الملك أي ملك، تصب عليه يوميا مئات التقارير والعرائض والاستدعاءات والاسترحامات، فلا يجد الوقت الكافي لمتابعة شؤون العباد والبلاد، اذا كان سيقرأ كل الرسائل التي تصله وخاصة المطولة منها.

كتبت النص التالي حرفيا: 

( لقد أحاطت بي يا سيدي، المزدان بالمهابة والجلال، التباساتٌ وسوءُ فهم، آمل ان تكرمني بجلائها، لا بقصد الحصول على مغنم، فإن اطيب مغنمٍ حصلت عليه هو لقب "النشمي" الذي اغدقتموه عليّ، وسيظل هاجسي وجهدي وطاقتي منصبة على ان ارتقي إلى مستواه وان لا أخذل توقعكم بي. 
لقد غمر الحزن قلبي وانا أرى ان بالإمكان التفكير في تصنيفي بخانة الذين يمكن ان تشوب صورتهم شائبة تمس الأساسيات والمطلقات التي تضرب جذورها في وجداني وروحي والمتمثلة في ان ولائي للملك وللعرش لا يدانى.  
لقد ظُلمتُ يا جلالة الملك، لا من حيث استبعادي من رئاسة مجلس إدارة الرأي الذي ندبتني اليه. 
إن ردة فعلي تجاه ذلك هي ان الظروف التي تستدعي تغييراً قد تتغير. وبئس نحن ان أصبحت مقاييسُنا غُنْماً او غُرماً. 
اعتذر عن ازعاج سيدنا، فما كان في وسعي ان اتحمل للحظة ان يكون اسمي من الأسماء التي يلحق بها الغبار وانا مَن يكرس روحي لقناعتي المطلقة بأن العرش هو عرضنا وهو امننا وهو مستقبلنا ومستقبل ابنائنا).   
 سلّمت على الملك سلامَ العيد التقليدي. وتحرّجت ان اسلّمه الرسالة امام جموع المهنئين، خشية ان يعتقدوا ان رسالتي هي لطلب معونة، فخرجت من صف الوزراء السابقين المهنئين وتوجهت إلى حيث الأخ العزيز حسين باشا هزاع المجالي مرافق الملك العسكري وسلمته الرسالة وانا مطمئن إلى انها في أيدٍ امينة.  
اتصلت بي رئاسةُ التشريفات الملكية بعد ثلاثة أيام هاتفياً وكنت أعود عيسى رزق المصري في مكتبه بشارع العقاد في الدوار الثاني بجبل عمان.
- معالي محمد داودية، جلالة سيدنا سيكلمك بعد قليل. 
كان طبيعياً، وانا الصحافي المتمرس، ان أحضّر ورقة وقلماً لأدوّن كلّ كلمة. 
وانتظرت.
إذن فقد قرأ الملك الرسالة.
إذن سأسمع كلاماً ملكياً جميلاً يتعلق بي.
إذن تم رفع الظلم عني.  
إذن انا محظوظ لأنني سأسمع صوت الملك في مكالمة حصرية معي وحدي. 

تذكرت المثل: " يمكنك أن تجعل رجلاً سعيداً، بمكالمة هاتفية قصيرة !!. 
ضرب جرسُ الهاتف بعد ساعة انتظار خلتها دهراً، كانت الأفكار والخواطر تتناهبني اثناءها.
كنت ارتعش، 
خشيت ان ارتبك واضطرب فأعجز عن الرد على كلمات الملك، لا يجوز ان اكون عَيياً !!
جاءني الصوت الرخيم الودود العميق الفريد: 
- كيفك محمد. 
انت من عظام الرقبة. 
انت عندي مثل عبد الله وفيصل. 
انت يا محمد النشمي الغالي على قلبي وموضع ثقتي المطلقة. 
انا سأسافر عدة أيام وبعد عودتي بدي أتعبك معي.  
الملك الذي يحمل هموم العالم والاقليم والأردن، وجد وقتاً لقراءة رسالتي. ووجد وقتاً للحديث معي انا المواطن الأردني البسيط الذي استنجد به. 
قلت للملك الذي يجري حبُّه في دمي: 
- يرعاك الله جلالة الملك. انا وصلني حقي. 
مكالمة جلالة سيدنا هي أكبر مما استحق. والله ان نفسي راضية كل الرضى.   
بعد أيام إتصل بي الدكتور فايز الطراونة رئيس الديوان الملكي: 
- محمد. تعال بيننا كلام. 
استقبلني بود كبير في مكتبه بالديوان قائلاً: 
- جاء سيدنا إلى هنا وكلّفني ان اناديك وان ابلّغك ان لك ان تختار أي موقع تريده في الداخل او في الخارج. 
واضاف: 
- انا اقترحت ان تذهب سفيراً، لدينا شاغران الآن، في المغرب والبحرين. 
قلت:
- ونِعم الاقتراح. 
مساءا اتصل بي الدكتور جواد العناني نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية قائلاً: 
- محمد. تعال ان تمكنت الآن إلى مكتبي في الوزارة بالدوار الثالث. 
قلت: انا في الطريق إليك. 
استقبلني العناني بمودة كبيرة قائلاً: 
- اسمع مني يا محمد. ليس لأحد يدٌ في تعيينك سفيراً الا سيدنا. 
 انا اختار لك المغرب التي ستعشقها. 

****
عندما قال لي الملك (انا سأسافر عدة أيام وبعد عودتي بدي أتعبك معي). كان قرر ان يعينني في وظيفة سامية ولم يكن يمنّ عليّ !! 
بل جعل هذه المكرمة تبدو كأنها مساعدة مني له !!
الله الله على الملوك.  
***** 

وكما قال الدكتور جواد العناني، فعلا عشقت المغرب و ما أزال اعشقها بلا حدود. 
ولطالما قلت للاصدقاء ان المغرب من اجمل ما خلق الله. وأضيف: بعد الأردن طبعا. 

**** 

كنت كتبت في شباط عام 1998 مقالة من قسمين في صحيفة "الزمان" اليومية اللندنية التي يرأس تحريرها الصديق الإعلامي العربي الأبرز الأستاذ سعد البزاز تحت عنوان "زمان جديد".
نوهت في المقالة بالعقل الملكي المغربي المرن الرحب الذي اختار المناضل الماركسي اللينيني المحكوم بالإعدام المحامي عبد الرحمن اليوسفي وزيراً أول- أي رئيساً للوزراء بمصطلحاتنا ! 

استحضرت في المقالتين تجربة مماثلة عندما اختار الملك الحسين في منتصف الخمسينات المحامي سليمان النابلسي السياسي المعارض رئيس الحزب الاشتراكي، رئيسا لحكومة حزبية سياسية ضمت 11 وزيراً من ابرز رجالات الضفتين في تلك الأيام: 
* سليمان النابلسي- رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية (الحزب الوطني الاشتراكي).
* عبد الحليم النمر- وزيراً للداخلية والدفاع (الحزب الوطني الاشتراكي).
* أنور الخطيب- وزيراً للأشغال العامة (الحزب الوطني الاشتراكي).
* شفيق ارشيدات - وزيراً للعدلية والتربية والتعليم (الحزب الوطني الاشتراكي).
* نعيم عبد الهادي- وزيراً للاقتصاد الوطني (الحزب الوطني الاشتراكي).
* سمعان داود- وزيراً للإنشاء والتعمير (مستقل).
* صالح المجالي- وزيراً للمواصلات (مستقل).
* صلاح طوقان- وزيراً للمالية (مستقل).
* صالح المعشر- وزيراً للصحة والشؤون الاجتماعية (الحزب الوطني الاشتراكي).
* عبد الله الريماوي - وزير دولة للشؤون الخارجية (حزب البعث العربي الاشتراكي).
* عبد القادر الصالح- وزيراً للزراعة (الحزب الشيوعي- الجبهة الوطنية). 

***** 

اتصل بي السفير المغربي مهنئا وقال: 
- يبدو ان للمقالتين في صحيفة الزمان حول المغرب صلة بهذا التعيين الملكي في المغرب ؟!
 
****** 

في الثالث عشر من شهر آب 1998، وصلت إلى الرباط عاصمة المملكة المغربية الإدارية، الأكثر هدوءاً بين عواصم العالم، بعد بندر سري بقاوان عاصمة سلطنة بروناي.
استقبلني بعد أيام رئيس الوزراء عبد الرحمن اليوسفي في مكتبه بالقصر الملكي قائلا: 
أهلا بصديقي السفير الأردني. لقد كلفت سفيرنا في عمان ان ينقل لك شكري على مقالتيك الجميلتين.   

ظل الرجل الجميل الرقيق سي عبد الرحمن اليوسفي يناديني دائما صديقي السفير الأردني. 

***** 

ما ان مرت فترة قصيرة على خدمتي في الرباط حتى مرض الملك الحسين وأدخل مستشفى مايو كلينك في أميركا. 
وفي المناسبات الملكية المغربية كان الملك الحسن الثاني يناديني بإسمي ويقول لي: 
- سعادة سفير المملكة الاردنية الهاشمية، انني اضرع إلى الله في كل صلواتي أن يلطف بأخي وابن عمي الملك الحسين. 
وظل الملك الحسن يرسل إلى جناح الملك الحسين في مايو كلينك ورداً وحلوى مغربية وبخوراً كل يوم. 
توفي الملك الحسين بعد وصولي إلى الرباط بأقل من ستة شهور.  
اتصل بي الأمير محمد بن الحسن ولي العهد المغربي قائلا: 
سعادة السفير، انقل إليك تعازي جلالة الملك الوالد وتعازيّ الشخصية وتعازي الشعب المغربي قاطبة.  
قلت: سيدي سمو الأمير ولي العهد، انا من يعزيك برحيل عمّك الملك الحسين.  

زارني معزياً في السفارة الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي والوزراء والسفراء والدبلوماسيون ورؤساء الأحزاب والكتاب والصحافيون والفنانون والبرلمانيون والاكاديميون وفيض من المغاربة الذين كانوا يذرفون دموع الحزن على ملك أحبه العالم.  

***** 

ربطتني علاقات طيبة جداً بكبار رجالات الدولة والمثقفين والصحافيين المغاربة.
كما جمعتني في المغرب صداقة حميمة امتدت خمس سنوات مع السفير الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الإعلام والثقافة السعودي ومع السفير الجزائري رئيس المجلس الدستوري بوعلام بسايح والسفير التونسي الدكتور صالح البكاري ومع المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –الايسيسكو د. عبد العزيز التويجري.  
وفي غير المناسبات الرسمية كنت أسوق سيارتي اتجول في كل ارجاء المغرب الشاسع الذي تحفه شواطيء طولها 3500 كيلومتر على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. 

******
ومن العجائب التي تُرى بالعين المجردة لقاء البحر الابيض المتوسط والمحيط الأطلسي، تحت منارة رأس سبارطيل ومغارة هرقل على بعد 10 كيلومترات من طنجة. وبالقرب من منتجع الملك سلمان بن عبد العزيز.
وقد اكتشف العلماء برزخاً يفصل بين كل بحرين في العالم ويتحرك بينهما بحيث يحافظ كل بحر على خصائصه من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية التي تعيش فيه والحرارة وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء.
قال تعالى"مَرَجَ البَحْرَينِ يَلتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ".
* (هذه المادة منشورة في الدستور غداً الاثنين).