المُنعنع

بقلم رمزي الغزوي 

في زيارتي الأولى إلى الصين تقبّلتُ على مضض تجرّع الماء ساخنا احتراماً لأسطورة اكتشاف الشاي على يد الإمبراطور «شين نونج» رغم عدم قناعتي بها، وليس امتثالاً لنصيحة مضيفي من أن الماء الساخن صحة وعافية وأنّه يسهل الهضم. فأنا أرى الماء البارد نعيماً حين آخذه من كأس شفّافة تحفلُ بالضباب ودمع الندى.

ذلك الإمبراطور، الذي سبق وأصدر فرماناً يقضي بعدم شرب الماء إلا بعد تسخينه، كان في استراحة في ظل شجرة حين شاءت الصدفة أن تطير ورقة منها وكأنها فراشة ناعسة لتحط بجاحيها في كأسه؛ فيتحول الماء إلى حمرة زاهية، ويغدو بمذاق لا يقاوم يجبره أن يتعمد رمي الورق فيها.

ولأنني شرّيب شاي يعاني صعوبة الولوج إلى مرفئ النوم إن شربه عند تخوم الليل، فقد أقنعتني أكثر أسطورةٌ هندية تدّعي أن واحدا من الرهبان البوذيين يَمَمَ شطر جبلٍ ليتفرغ لعبادة توصله «النيرفانا»، أي حالة الانعتاق من كل شيء دنياوي، لكنه ورغم إصراره على البقاء بحالة يقظة إلاَّ أن سلطان النوم غلبه؛ ليصحو غاضبا ويقصّ جفنيه، ويرمى بهما كي لا يأتيه النوم مرة أخرى. وفي ذات المكان الذي سقط فيه الجفنان بزغت شجرة ما زالت تعطي أوراقا رمحية لا تشبه إلا أجفانا مطبقة على حفنة نوم.

قبل يومين احتفلت برفقة بعض الأصدقاء، وعلى طريقتنا الخاصة، باليوم العالمي للشاي، الذي أقرته الأمم المتحدة استجابة لمقترح قدمته الهند قبل سبع سنوات تدليلا على أهميته، وعلى المعاناة الكبيرة التي تصاحب زراعته وقطفه وتخميرة وتحضيره، وقد اختاروا ذلك اليوم كون شهر أيار يعد بداية مواسم قطفه في كثير من دول العالم.

لربما أن الهند حين قدمت اقتراحها ذلك، ومن قبل حين أقرت الشاي كمشروب وطني، كان في بالها إحياء ذكرى المزارع «مانيرام ديوان»، الذي أعدمته سلطات الاستعمار البريطاني لمشاركته في تمرد لجنود هنود مطالبين بمزيد من الشاي عام 1857. فالشاي ورغم هدوئه الرائق الصانع للبهجة إلا أنه ضالع في تاريخ الثورات. ففي حقبة سيطرة بريطانيا على الأراضي التي أصبحت تُعرف بالولايات المتحدة الأمريكية، أعلن الأمريكيون الثائرون رفضهم الامتثال للقوانين والأنظمة، مما أجبر المحتل على إلغاء الضرائب على كل السلع، باستثناء الشاي. وهنا تأججت الثورة أكثر حتى نالوا استقلالهم.

يبهجني أن العالم خصص يوما للاحتفاء بمن عدّل مزاج عالمنا المجنون وهذبه وشذبه، ولا أكاد أتخيل أن عالمنا كان يمكنه أن يبقى بعيدا عن شبح الانقراض لولاه. فهو دم نقي ما زال يسري في أوصال عالمنا ليمنحه بعضا من هدوء وسلام رغم ضجيج الحروب والكروب.

في احتفالنا الصغير أخذ كل واحد منا يسرد طريقته الخاصة مع هذا الجميل. فمنهم من يحبّه ممريماً اي مع المريمية، ومنهم من لا يكاد يستسيغه بالسكر، ويرى أن المرَّ يجعلنا أكثر قدرة على التفكير الحر. ومنهم من يحبه بحب الهال، وآخر يفضله بالزعفران أو الليمون أو الزنجبيل أو الحليب. ومنهم من يرغبه بصحبة حبيب غاب كان يتوسلها أن يغمس طرف إظفره في كأسه، كي يطفئ بعض جنونه.

في تلك الحفلة قدمته لضيوفي أخف من المعتاد قليلا ومُنعنعاً، وأخذنا نحتسيه وكأننا في محراب قصيدة صافية، لكن أحدنا كرع كأسه؛ وكأن فمه محصَّنٌ ضد الحريق، فصرخ به صديق: يا رجل الشاي للشرش مش للكرش.