الحرب الشرسة

بقلم د. عدلي قندح

تشهد الساحة الاقتصادية العالمية حربًا شرسة حقيقية بين قدرات المصنعين الصينيين والسياسات الحمائية الأوروبية والأمريكية. فقد تمكن المصنعون الصينيون من إثبات قدرتهم على توسيع الإنتاج وخفض التكاليف، مع الابتكار المستمر في حلول بديلة، ما يجعل استراتيجيتهم تتسم بطابع هجومي قوي. هذه الديناميكية تسمح للصين بزيادة حصتها في الأسواق العالمية بسرعة، وتقديم منتجات بأسعار تنافسية تجعلها جذابة للمستهلكين في كل مكان. في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تدابير حماية كخطة دفاعية، مثل فرض الرسوم الجمركية وتقديم الدعم الحكومي للصناعات المحلية، في محاولة لحماية اقتصاداتهم من الإغراق السلعي الصيني.

هذه التدابير تهدف إلى تحجيم التأثير الصيني والسيطرة على الأسواق المحلية، لكن تظل معركة شرسة بين الابتكار والكفاءة الصينية والإجراءات الحمائية الغربية.

اجراءات الولايات المتحدة برفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية هي بمثابة نيران صديقة قد تؤدي إلى تداعيات واسعة النطاق تؤثر بشكل مباشر على التضخم الذي يحاول بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي مكافحته. الحرب التجارية بين الصين وأمريكا والاتحاد الأوروبي ليست مجرد صراع اقتصادي، بل تندرج ضمن سياق أوسع من المنافسة الجيوسياسية، التي تحمل في طياتها تداعيات اقتصادية معقدة تؤثر على الأسواق العالمية بأكملها.

بدأت التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين منذ سنوات، لكنها وصلت إلى ذروتها مع فرض الرئيس الأمريكي جو بايدن رسومًا جمركية بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية، وزيادة التعريفات الجمركية على الصلب والألومنيوم ثلاث مرات، بالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية على الخلايا الشمسية إلى 50%، وإعلان مضاعفة الرسوم على أشباه الموصلات اعتبارًا من عام 2025. هذه الإجراءات لم تكن مجرد رد فعل على ما تعتبره واشنطن ممارسات تجارية غير عادلة من قبل بكين، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تقليص الاعتماد الأمريكي على التكنولوجيا الصينية، خاصة في القطاعات الحيوية.

الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في موقف صعب، حيث يسعى لتجنب الانجرار إلى الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، فإن إعادة توجيه الشحنات الصينية نحو الأسواق الأوروبية نتيجة للرسوم الأمريكية تزيد من الضغوط على بروكسل. تشير التوقعات إلى أن هذه الإجراءات الأمريكية قد تؤدي إلى زيادة العجز التجاري الأوروبي مع الصين، ما يعقد جهود الاتحاد الأوروبي لحماية صناعاته المحلية من المنافسة الصينية المدعومة.

بروكسل كانت تعمل على اتخاذ إجراءات لحماية صناعات التكنولوجيا الخضراء المحلية من المنتجات الصينية الرخيصة، لكن القدرات الأوروبية لمواجهة الدعم الحكومي الكبير الذي تتلقاه الشركات الصينية تظل محدودة. في ظل هذه الظروف، يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة بين الحاجة إلى حماية صناعاته المحلية وتجنب تصعيد التوترات التجارية التي قد تؤدي إلى انتقام صيني ضد الشركات الأوروبية.

جمود معدلات التضخم عند مستويات أعلى من تلك المستهدفة من بنك الاحتياطي الفيدرالي تشكل أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي حاليًا، ويعتبر بنك الاحتياط الفيدرالي مكافحته أولوية قصوى. الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والانجرار الأوروبي في هذه الحرب، يمكن أن يفاقم من التضخم بطرق متعددة. أولًا، الرسوم الجمركية على البضائع الصينية تزيد من تكاليف الإنتاج، حيث تعتمد العديد من الصناعات الأمريكية والأوروبية على المكونات الصينية. زيادة هذه التكاليف تُترجم عادة إلى ارتفاع أسعار المنتجات النهائية، ما يؤدي إلى تضخم مستورد.

ثانيًا، اضطراب سلاسل التوريد نتيجة للحرب التجارية يزيد من التكاليف اللوجستية ويعطل تدفق السلع، مما يؤدي إلى نقص في بعض المنتجات وزيادة في الأسعار. هذا الاضطراب يؤثر بشكل مباشر على المستهلكين الذين يواجهون ارتفاعًا في تكلفة المعيشة، ويضع ضغوطًا إضافية على السياسات النقدية لبنك الاحتياط الفيدرالي.

في مواجهة هذه التحديات، يجد بنك الاحتياط الفيدرالي نفسه أمام مهمة صعبة تتطلب توازنًا دقيقًا بين رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم وبين دعم النمو الاقتصادي الذي قد يتباطأ نتيجة للسياسات التجارية. على المستوى العالمي، تعمل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل يبدو أنه منسقاً لمواجهة الممارسات التجارية الصينية التي يصفونها بغير العادلة، مع محاولة تجنب التصعيد الذي قد يؤدي إلى حرب تجارية شاملة.

الحرب التجارية بين الصين وأمريكا والاتحاد الأوروبي ليست مجرد نزاع اقتصادي، بل هي صراع معقد له تداعيات واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي. تأثيراتها على التضخم، والتحديات التي تفرضها على السياسات النقدية والاقتصادية، تتطلب من الحكومات والبنوك المركزية تبني استراتيجيات متكاملة للتعامل مع هذه الأزمة المتعددة الأوجه.