قهوة محمود درويش
رشاد ابو داود
لم أكن صديقه ولا هو صديقي. علاقتنا لم تكن تتجاوز الورق والحبر. هو شاعر كبير كتب عن شعب أسير. قصائده ملأت القلوب وأيقظت العقول على أسوأ مأساة في القرن العشرين.
شعب ارتكبت بحقه المذابح. اجتث من أرضه وألقي به في شتى بقاع الأرض من قبل بقايا شعب تم تجميعه من، أيضاً بقاع الأرض، ليسكن بيوته ويسرق تاريخه وتراثه وزيتونه وزيته ويقيم «دولة» آفلة للزوال.
وأنا صحافي وكاتب. أمضي يومي ونصف ليلي في الجريدة. لا وقت لدي للعلاقات ولا الأمسيات ولا المناسبات. لم أكن أسعى للقاء المشاهير، لا أتزلف للمسؤولين، ولا يهمني الا كيف سيصدر عدد الجريدة غداً. أتابع بروفاتها خبراً خبراً وصفحة صفحة، أصحح وأعدل وفق دائرة اتسعت مع السنين لتشمل حسابات السياسة واعتبارات اللغة وقواعد المهنة و..استغلال هامش الحرية الى أقصى درجة دون الاخلال بقواعد اللعبة.
ذات مساء قال لي الصديق خيري منصور الذي كان يأتي الى مكتبي في «الدستور» معظم المساءات فينتظر في مكتبه حتى انهي عملي ونخرج الى ليل عمان البريء «محمود بيسلم عليك، كنا في سيرتك الليلة» يعني محمود درويش. قلت له « وهل يعرفني ؟ « قال « طبعاً يعرفك فهو يتابع مقالاتك ويعجبه اسلوبك الأدبي الرشيق في المقالات السياسية. كما أنه معجب بعناوين الجريدة وخاصة الصفحة الأولى لما فيها من اختزال وبعد سياسي».
قلت لخيري، يرحمه الله، والله منيح خلينا يوم نلتقي. لم يأت ذاك اليوم الى أن كان مناسبة لجريدة «الدستور»، أظن أنها ذكرى الاحتفال بإحدى سنواتها، فجلسنا الثلاثة درويش وخيري وأنا وزميلين آخرين على نفس الطاولة. جرى أول لقاء وجهاً لوجه بيننا وحديث شيق ذو شجون وهموم.
اللقاء الثاني كان في البحرين في آذار 2006. كان درويش مدعواً للاحتفاء به ضمن مهرجان ربيع الثقافة من قبل الشيخة العروبية مي آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة آنذاك والمثقفة الباحثة في مجال التاريخ. وكانت تلك زيارته الأولى للبحرين. وقتها كنت مدير تحرير وأحد مؤسسي جريدة «الوقت». دفعني حسي الصحفي أن اطلب من الزميل المرحوم جهاد هديب أن يجري لنا لقاءً مع درويش لأنشره قبل أمسيته بيوم.
ذهبنا أنا ورئيسة التحرير د. خولة مطر الى الفندق الذي يحل فيه درويش. رحبنا به، تحدثنا حديثاً أيضاً ذا شجون لكن بدون هموم، مع أن هم فلسطين كان حاضراً ولم يزل على مدى تاريخها في بال شعب البحرين الطيب.
نشرنا المقابلة في صدر الصفحة الأولى على أربعة أعمدة مع صورة مميزة لدرويش. علماً أنه لم يكن رائجاً أن تنشر مادة ثقافية بهذا الابراز في معظم الصحف العربية. لاقى العدد إعجاب الجميع وشكرنا عليه محمود.
اللقاء الثالث والأخير كان بمبادرة من الصديق الشاعر زهير أبو شايب حيث قال لي ما رأيك نزور محمود في بيته في عبدون؟ قلت له: والله فكرة. تحدث مع محمود وذهبنا. كان أنيقاً كعادته في لباسه وفي حديثه، مستنفراً في داخله كما لو أنه لم يزل في اليوم الأول للنكبة الفلسطينية 1948.
وكما يحب أعد لنا القهوة بنفسه. قلت له: شو حكاية قهوة محمود درويش؟ ضحك وقال: يا أخي انا معتاد أن اشتري القهوة من مكان معين في عمان واطلبها بمواصفات تناسب مزاجي. قالوا لي ان المحل اصبح يسأل الزبون: بدك ياها قهوة محمود درويش؟ وهيك صار. المهم عجبتكم القهوة. قلنا له طبعاً.
في أيام الطوفان وما بعد السابع من اكتوبر ليت محمود درويش حي لأقول له، صدقت حين قلت وأوجعتهم، أنهم « عابرون في كلام عابر». ها هم على وشك أن يعبروا من حيث أتوا !