الصحة النفسية من هم بواكيها

د. محمد رسول الطراونة

في الأيام الثلاثة الماضية قادتني قدماي طوعا وبنفس راضية الى إجتماعين هامين خصصا للحديث حول الصحة النفسية في الاردن، الأول منها كان في المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا و بحضور جمع من أصحاب المعالي وزراء حاليون، وزراء سابقون و اكاديميون متخصصون في الصحه النفسية، بالرغم من أن عدد الحاضرين لم يتجاوز أصابع اليد إلا أن الجميع أدلى بدلوه في هذا المجال بدون مجاملة أو تجميل للواقع، ولم يختلف الحاضرون على أن الصحه النفسية في الاردن تواجه عدة تحديات أستعرضها معالي وزير الصحة الاسبق الدكتور سعد الخرابشة في تقرير الدراسة التي ترأس فريق تنفيذها في عام 2010 بتكليف من المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا، مختصر القول ان تحديات الامس البعيد -قبل عقد ونيف- هي ذاتها تحديات اليوم، لعل من أبرزها الوصمة المجتمعية و النظرة السلبية تجاه الامراض النفسية التي تمثل عائقا كبيرا يحول دون طلب الكثير من الاردنيين المساعدة الطبية النفسية، و ما زالت الموارد المخصصة للصحة النفسية على حالها، سواء كان ذلك لتمويل البرامج الصحية او توفير المرافق والمعدات اللازمة، هذا النقص يحد من القدرة على تقديم خدمات صحه نفسية شامله ومستدامة، فحجم الانفاق على الصحه النفسية ما زال أقل من 1% من حجم الانفاق الصحي، و ما زال نقص الكوادر الطبية المتخصصة يراوح مكانه، فعدد الاطباء النفسيين لم يتجاوز التسعون.

و من التحديات القائمة ايضا، زيادة حدة التأثيرات الاقليمية، فالوضع الجيوسياسي المتوتر و الأزمات الاقليمية وما نجم عنها من تدفق للاجئين خلقت ضغوطا إضافية على النظام الصحي برمته وليس فقط على الصحه النفسية التي هي اصلا تعاني.

إن التغلب على هذه التحديات يتطلب جهودا مشتركة من الحكومة و المنظمات غير الحكومية و المجتمع المدني لتعزيز الوعي العام وزيادة الاستثمار في الصحه النفسية وتوسيع نطاق تدريب المختصين في هذا المجال.

الحدث الثاني الذي كان لي شرف حضور فعالياته فقد كان إطلاق المنصه الالكترونية للدعم النفسي، هذه المبادرة التي تبنتها و قادتها زميله عزيزه لا تكل ولا تمل وصفها البعض «بالمناكفة» و وصفتها «بالمثابرة» رئيسة رابطة الطبيبات العربيات الدكتورة ميسم عكروش، و تمت الاطلاقة تحت رعاية سمو الامير الحسن بن طلال الذي وصف الحدث بانه جزء من التعبئة الوطنية للصالح العام، صاحب مقولة أنسنة الاحصائيات وذلك في معرض قوله بأن ثلث سكان الاقليم يعانون من الاضطرابات النفسية، ويسجل لسموه مساهمته بشكل ملحوظ في تعزيز الوعي بأهمية الصحة النفسية مؤكدا على الحاجة لمواجة التحديات النفسية بنفس الجدية التي تواجه بها القضايا الصحية الاخرى، فسموه ومنذ زمن طويل من قادة بواكي الصحه النفسية.

لعلها فرصة لابراز أهم الاتجاهات المستقبلية للصحة النفسية، بدأ من دمج خدمات الصحه النفسية في منظومة الرعاية الصحية الاولية، المشروع الذي ما زال يراود مكانه منذ عقود، بالرغم من إدراك الجميع لأهميته في تسهيل الوصول الى خدمات الصحه النفسية وتحسين الاستجابة للازمات النفسية التي تزداد يوما بعد يوم في اقليم غير مستقر ولا يراد له أن يستقر، و الاتجاه الاخر يتمثل في زيادة الوعي وتقليل الوصمة من خلال التثقيف حول الصحه النفسية بما يساعد في تقليل الوصمة المرتبطه بالامراض النفسية وتشجيع الافراد على طلب المساعدة والدعم المتخصص، حيث بات من الضروري التوسع في تقديم الدعم النفسي الاجتماعي خصوصا للفئات الضعيفه مثل اللاجئين والاطفال والنساء.

إن منصة الصحه النفسية الالكترونية التي أطلقت برعاية سمو الامير الحسن، حتما ستساهم في تحسين الرعاية النفسية وستوفر الوصول السهل والسريع الى هذه الخدمات في أي مكان وفي أي وقت مما يجعل الرعاية النفسية متاحه لمن يعيشون في المناطق النائية او من لديهم صعوبات في التنقل، و المنصة توفر خصوصية للمريض وسرية لكافة بياناته وهذا ضروري للكثير من المترددين في طلب الخدمة بسبب الوصمة الاجتماعية، ناهيك عن تكلفتها المعقولة مقارنة بالجلسات الوجاهية مما يجعلها اكثر قدرة على اتاحة الفرص لاكثر عدد ممكن من المرضى، كما توفر المنصة الموارد التعليمية والمعلوماتية حول الصحه النفسية مما يساعد الاشخاص على فهم وادارة حالاتهم بشكل افضل، فهي دعما مستمرا وأداة فعاله للمتابعه والمراقبة بعد العلاج النفسي التقليدي مما يساعد في الحفاظ على استقرار الحالة النفسية و ستسمح المنصة بتعاون أسهل بين مختلف المختصين في الصحه النفسية والجسدية مما يعزز العلاج المتكامل والفعال.

خلاصة القول، من الضروري أن يكون هناك توجه شامل نحو تعزيز الصحه النفسية في الاردن يشمل سياسات حكومية فعالة، وبرامج توعية مجتمعية، وتوفير خدمات علاجية متاحة ومناسبة، من خلال التزام جاد من الجميع، بتعزيز الصحة النفسية وتوفير بيئة داعمة ومواتية للنمو والازدهار الشخصي والاجتماعي، وأختم بما قاله الشاعر:

(عليَّ نحت القوافي من معادنها/ وما عليَّ إذا لم تفهموا.........) !