مقطع من الذكريات الحميمة (10)
عندما رحل عمر باشا العمد، لواء المخابرات العامة، الذي سيظل نموذجاً على أبناء الوطن الذين يحمونه بصلابة ويعاملون أبناءه باحترام وكرامة، كتبت ما ناسب وجداني.
حقق معي عدد من ضباط المخابرات العامة في السبعينات والثمانينات فوجدتهم رجالاً وطنيين كراماً، لم أتعرض لما يسمى «إساءة استخدام السلطة» التي تغري بالبطش والعنف.
وأشهد أنهم لم يكونوا منفّرين، رغم أنني حصلت على عدة عقوبات:
المنع من الكتابة.
المنع من السفر منذ عام 1974 حتى عام 1989، باستثناء أربع سفرات: الأولى، إلى اليمن الديمقراطي عام 1979، بوساطة من الحاج جمعة حماد.
والثانية إلى الإتحاد السوفياتي عام 1981 بواسطة من محمود الكايد.
والثالثة إلى بلغاريا عام 1984 بوساطة من نصوح المجالي.
والرابعة إلى كينيا عام 1988 بوساطة من عصام عريضة.
وتعرضت إلى الفصل من العمل، وتمت الموافقة على عودتي اليه، بتدخل من مريود التل وطارق مصاروة.
عندما حقق معي الضابط عمر العمد في منتصف الثمانينيات، لاحظت أن في مكتبِه مكتبَةً تضم كلاسيكيات الفكر والسياسة والأدب اليساري العالمي.
وبأمانة فقد وجدته نموذجاً في الخلق والمهنية والديالكتيك.
كتبت عن عمر العمد مقالة في «الدستور» بعد زوال الأحكام العرفية وإلغاء قانونها فتم توزيع المقالة على كل أبناء الجهاز كما أبلغني مدير المخابرات العامة آنذاك سميح باشا البطيخي الذي قال لي: «رفعت المقالة الروح المعنوية للشباب».
وقد كتبت في تلك المقالة انه لولا اشتعال رأسي شيبا لقدمت طلباً للعمل في دائرة المخابرات.
وقد ظلت تلك المقالة على موقع دائرة المخابرات العامة ردحاً طويلا من الزمن، وللأسف انني لا احتفظ بمقالاتي.
**
الاستشهاد بتجربتنا السياسية لا تعني فراراً من الواقع، ولا انحيازا إلى الماضي.
منذ زمن ليس بعيداً، كانت على ألسِنة المواطنين وملء افواههم، مصطلحات انقرضت، ولم يعد لها مكافئ موضوعي اليوم!.
كان «النظام» يُفرِّخ «زلم» ورجالات وقيادات و»دواسين ظلما»، يفتدون الوطن والعرش بأرواحهم، كانوا مؤمنين بالوطن، وكانت العِفّة هي عقيدتهم الاقتصادية والسياسية، وكانوا يعتبرون الفاسدين «جرذانا».
وأيضا كانت المعارضة تلد «طيور شلوا» و«زلم» ومناضلين وقرامي وفرساناً، يفتدون الوطن بأعمارهم، يدخلون السجون وهم يطلقون عقائرهم بالحداء للوطن والفقراء والعمال والحريات العامة وسقوط الاستعمار: يعقوب زيادين وعبد الرحمن شقير وأمين شقير وشاهر أبو شحوت وحمدي مطر وعبد الله الريماوي وسالم النحاس وضافي الجمعاني وحاكم الفايز وعوني فاخر.
كان التكافؤ متحققاً بكثرة وبوفرة، وكان النظام يتوكأ على أطواد ودعامات ورواسيَ، لم يكن جمع المال من انشغالاتهم واهتماماتهم، ولم تكن القصور ولا اليخوت ولا الطائرات الخاصة، تسترعي انتباههم أو تحظى بنظرة تحسّر من سرائرهم النبيلة.
أيام زمان كانت المعارضة تستخدم لقباً فخماً مستحقاً هو «رجال النظام»، تطلقه على الرؤساء والوزراء والمدراء والقيادات الأمنية. كانوا مسيسين وقراء. عند كل واحد منهم في منزله ما يفتخر به: مكتبة قياس 200 بوصة.
وأيام زمان، أصبح فلاح المدادحة - أبو ندهتين- وزيراً للداخلية، ولم يفعل شيئا لـ «تحسين أوضاعه» سوى إنه باع أملاك والده ليتمكن من الإنفاق على مقتضيات المنصب. ولهذا رحل ولم يترك خلفه بيتاً، ولا يختاً، ولا مزرعة. ولا مصنعاً، ولا شركة، ولا رصيداً.
والصحيح ان فلاح المدادحة لم يكن باستطاعته ان يكون فاسداً ولا مرتشياً !!.
فالفساد قلة شرف وطبع وموهبة وتربية و»طولة يد» وخِسّة.
ويد فلاح المدادحة كانت قصيرة جداً، إلا على اعداء الأردن.
ولم تكن المعارضة في نظره عدواً.
وهل فعل الشهيدُ وصفي التل، الذي دانت له القلوب والسواعد والإدارة والأراضي والجمارك والمالية، غير انه رحل مديوناً ؟!.
وصفي التل وهزاع المجالي وفلاح المدادحة ومحمد عودة القرعان وعبد خلف داودية ونذير رشيد وذهني رأفت وحكمت الساكت، هم مقطع عرضي لـ «رجال النظام» ! مكَّنهم النظامُ فمكّنوه.
مكّنهم من القيادة فمكّنوا اركانه ووطّدوها.
كان المسؤول «يقظب شاربه»، دلالة على الإلتزام الكامل والقدرة على التنفيذ والوفاء، وكان يراهن بقص نصف شاربه إن هو أخفق. وكان الرجال يهددون خصومهم قائلين: بقص شاربك. و»كل شارب له مقص».
**
انتجت بلادنا الأردنية رجالاً مقدودين من الصخر والكرامة. سواء من رجالات النظام أو من رجالات المعارضة.
انتجت رجالا منتمين إلى الأمة بكل جوارحهم، حتى انه كان يؤخذ على رجالات الوطن إعلاء الشأن القومي على الشأن الوطني. وإعلاء البرنامج القومي والفلسطيني على البرنامج الوطني.
حتى وصل الحال إلى اتهام الحركة الوطنية الأردنية، جراء ذلك، بالتذيل !!.
لقد ذابت الحركة الوطنية الأردنية في فصائل وأطر العمل القومي. في «جبهة التحرير العربية» لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي- فرع العراق. وفي «قوات الصاعقة» لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي - فرع سوريا.
وظل الشيوعيون الأردنيون الأقل انسياحاً وذوباناً، والأوضح انحيازاً للبرنامج الأردني. ولما لم يسلموا من العصف الذي كان يرفع شعار البندقية والكفاح المسلح، لا النضال السياسي التراكمي، وانتقِدوا لعدم الانخراط في ظاهرة العمل الميليشياوي المسلح، شكلوا ميليشيا الأنصار. واظنهم شكلوها مسايرة ومجاراة لموضة تلك الأيام !.
وفي كل الظروف والأحوال كان الأردنيون قادة وانداداً ذوي حضور بارز ملموس في ميادين العمل القومي، مفكرين وعسكريين واستراتيجيين.
وكان الملك الحسين النموذج الأبرز في الندية والاستقلالية، وكان ذا رأي ورؤية.
كان نِداً لجمال عبد الناصر.
وندا لحافظ الاسد.
وندا لصدام حسين
وندا لأنور لسادات
وندا لمعمر القذافي.
كما كان ندا لزعماء العالم الكبار.
ولا اقصد بكلمة الندية هنا، الخصومة.
وكانوا اندادا ومستقلين، رعيل الأردنيين المؤسس، الذي ضم الشخصيات السياسية الأردنية في عهد الملك الحسين، مرحلة بناء المملكة وتوطيد اركانها:
منيف الرزاز ووصفي التل وسليمان النابلسي وطاهر المصري وشفيق ارشيدات وشاهر أبو شحوت ونذير رشيد، ومحمود المعايطة وحمد الفرحان ويعقوب زيادين ومحمد الحباشنة ونايف حواتمة وهاني الخصاونة وجمال الشاعر وضافي الجمعاني وحسين مجلي وعدنان أبو عودة، ومئات الشخصيات الأردنية التي لمعت في سماء امتهم العربية.
***
لعل إحدى خصائص الحياة السياسية الأردنية الراهنة، أو فلنقل علامات تشوهها، هو بروز ظاهرة المغالاةُ في الموالاة، والمغالاةُ في المعارضة !
عندنا مشكلةٌ حقيقية، تضرب مخرجات الحوار الوطني بانتظام، اسمها المغالاة !
مغالاةٌ في الموالاة. ومغالاة في المعارضة !!
فأيّ نقد لأداء النظام السياسي والحكومة والمؤسسات، يقابَل بهبةٍ ممن يعتقدون أن النظام والحكومة فوق النقد !! فيتهمون المنتقدين بأنهم حاقدون مشبوهون مندسون.
وأي اطراء وإشادة بأداء النظام السياسي والحكومة ومؤسسات الدولة، يُقابَل اصحابُها بسيلٍ من الأحكام النمطية الجاهزة: شبيحة، منتفعون، كُتاب التدخل السريع..
إن كل اشكال المغالاة والتهويل والتقليل، هي تعصب وضيق افق وفقر سياسي وهشاشة معرفية.
ونتيجة كل ذلك إلحاق أفدح الأضرار بالإصلاح والتنمية والتقدم.
ويُلاحظُ كل ذي عينين، أن موجة الإدراجات والكتابات وأشرطة الفيديو المتكاثرة ومعظم الندوات، تركز بقصد وبلا عفوية، على السلبيات فقط، التي أَعترفُ انها موجودة وكثيرة وتحتاج إلى نقد وكشف وفضح حتى. لكن ثمة إنجازات هائلة لا يمكن انكارها أو الانتقاص منها !!
ونلاحظ أن المحتوى الذي يتسيّد ما نقرأ ونسمع ونشاهد، هو التبخيس والتخسيس والتشكيك والتفكيك والانتقاص من الإيجابيات والإنجازات والمبادرات، التي أَعترفُ انها كثيرة ووفيرة. ويحتاج منجزوها إلى التقدير والثناء والمكافأة.
ونعلم ان أحد عوامل رفع «دوز» النقد، هو لحصد الشعبوية ولتحقيق «أشياء أخرى».
ويلاحظ الناس ان إشاعة روح الإحباط والقنوط، والهدم واللطم، والسواد والحِداد، تجري بشكل مركز بهدف نزع ثقة المواطن بوطنه.
ومِن الغفلة ان لا نشك في الدوافع والروافع!!
إنه مخطط طويل المدى لإظهار اننا دولة هشة ضعيفة تعجز عن التصدي لأية مشكلات.
فليعلم من لا يعلم، أن بلادنا صلبة قوية قادرة، لا تتوقف عن التجدد والتكيف والحركة، كراكب الدراجة الهوائية الذي إن توقف وقع.
هذه البلاد تطبق قاعدة «إن أسوأ حل، هو أفضل من عدم القدرة على الحل».
ويطمئننا ان «قوات النخبة» المثقفة الأردنية، والقوة الإعلامية الأردنية الناعمة، التي تتوزع على الصحافة والإعلام والثقافة، ليست أكياسَ تدريب ولا نشافاتٍ، تأخذ ما يقذف عليها باعتباره الحقيقة المؤكدة !.
ومبكرا قيل:
«ما زادَ على حدّه،
انقلب إلى ضدّه».