مقطع من الذكريات الحميمة (7)
بقلم العين محمد داودية
تتشابك دورة حياة المجتمعات في نظر العلامة عبد الرحمن بن خلدون كما جاء في كتابه الموسوم «العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
وفيه يكتب:
«الأوقاتُ الصعبةُ تصنعُ الأقوياء،
والأقوياءُ يصنعون الرخاء.
وأوقاتُ الرخاء تصنع الضعفاء،
والضعفاءُ يصنعون أوقاتا صعبة».
ثم تصنع الأوقات الصعبة رجالاً أقوياء مرة أخرى !!
**
سيظل كل من ينام في المفرق يومين او ثلاثة، يتمتع براحة بدنية ملموسة، كالتي توفرها إبرة الفاليوم او حبات المسكّن. وهي راحة كالتي يحصل عليها كل من ينام في أغوار الأردن حيث أكبر وأكثف كمية أكسجين في العالم.
ما يزال سراً مستغلِقاً، الرابط والسبب الذي يجعل زوار وأهل المدينة مشدودين إليها بعرى لا تنفصم، ويجعل أهلها في ارتباط فريد بها.
تنفرد المفرق بطقس غريب. نهارها هجير وغبار وحرارة مفرطة بحيث لا ترى أحداً يتحرك في شوارعها خلال ساعات الظهر وما قبل المساء.
كنا ننام ساعتين إلى ثلاث ساعات، هي القيلولة التي تمتد إلى الساعة الخامسة عصراً.
بعد ذلك يهب على المفرق نسيم غربي رطب خلاب فاتن. ليس له مثيل في الكرة الأرضية، يأتي من أحراش عجلون وجرش، فيخرج الأهالي إلى الشوارع حيث تظن ان كل أهل المفرق خرجوا من بيوتهم.
ومن لطائف المفرق وخصائصها ان شبابها وعائلاتها يغادرونها او يهاجرون إلى كل أصقاع الأرض، لكنهم يظلون على صلة بها لا تنقطع. والسر في هذه الصلة الروحية -كما يعتقد أبناؤها- هو في مائها الذي فيه جاذبية فريدة تشد الأبناء إلى صدرها مهما طالت غيبتهم.
وهذه واحدة من قصص هذا الارتباط الفريد:
اتفق أبناء المفرق المهاجرين إلى أميركا على اللقاء في المدينة الأعجوبة المسماة مدينة الخطيئة، لاس فيغاس، التي يبلغ دخلها مليار دولار يومياً، بعد غربة عن المفرق وانقطاع بينهم دام نحو نصف قرن. وهم: الأب أميل حداد، الشاعر سرحان النمري، الشاعر عيسى بطارسة، توفيق النمري، رياض النمري، الكابتن فراج دبابنة، فايز عوده، إلياس عوابده، إبراهيم مرجي وفكتور نخو.
توافدوا من كل ولايات أميركا إلى تلك المدينة الصحراوية الغارقة في الأضواء والألوان والجمال. التقوا هناك وتسامروا وتذاكروا وفرحوا فرحا لا يوصف، كما اخبرني الصديق الشاعر عيسى بطارسة، الذي استضافني في منزله وقال لي:
لا يعقل ان تأتي إلى أميركا وترجع إلى الأردن دون ان تزور لاس فيغاس.
هاودته وانطلقنا بسيارته الفارهة، نتبادل قيادتها لمدة 5 ساعات، إلى تلك المدينة الأسطورة.
كان عيسى مُحِقا، فرادة المدينة وبشاشتها وتصابيها وترحابها، لا يمكن تكرارها او استنساخها.
كان شباب المفرق في الستينات والسبعينات يندفعون كل مساء الى طريق جرش، يفرّون من الرمض والهجير والصهد إلى النسمة الرطبة الفريدة.
أسراب من الشباب المتحمس الفوار، يتحدثون في كل شيء، في السياسة والجنس والشعر وتحرير فلسطين والجزائر والوحدة العربية وكوهين والسلاح النووي والمقارنة بين قوتي أميركا والإتحاد السوفياتي وحزب البعث وحركة القوميين العرب وحزب التحرير وجمال عبد الناصر وأمين الحافظ وصلاح جديد.
كنا نختلس لحظات من جفاف السياسة، وننفلت من المسار اليومي الصاخب إلى عوالم الفتيات الزاهية الملونة الرطبة، إلى عالم الأنثى السحري البخوري الأثيري السحابي، عالم الشغف واللهفة والنشوة والخدر وزهو النجاح في اختبار القبول المبكر.
**
في الثالثة عشرة من عمري، كنت اعمل طيلة كل العطل الصيفية في مطعم المعلم سالم الشاويش ابو سعدو، الواقع في أقصى الجهة الشرقية من المفرق، على خط بغداد- عمان. دمشق- عمان.
كان المعلم سالم يغيب كثيراً، دلّني على قواعد العمل الرئيسية ومضى.
كل مساء كنت أنقع في الماء وبايكربونات الصوديوم، نحو 3 كيلوغرامات من الحمص ابو الحبة الكبيرة عيار 12. وفي الصباح الباكر أسلق نصف الكمية وأدقها وأعمل منها حمصاً بالطحينية وفتة حمص ومسبّحة، وأطحن نصفها الآخر لعمل الفلافل.
كان طحن حمص الفلافل يتم يدويا، على مفرمة كمفرمة اللحمة. وكان الطحنُ مرهقاً شاقاً يهد الحيل. ثم كنت أقوم بإضافة البهارات والملح وكمية من البقدونس، لأعمل من تلك العجينة مئات حبات الفلافل الشهية.
وأصبحت قادراً على تلبية طلبات الأكل، فأبدأ على الساعة العاشرة صباحاً في طبخ الطبق الذي يحدده المعلم سالم ويشرف عليّ وانا اتقن تنفيذ توجيهاته، إلى ان اصبح يعتمد علي اعتماداً تاماً.
كنت أطبخ و أعد: فاصوليا باللحمة، باميا باللحمة، منزّلة باذنجان، عجة البيض، حمص بلحمة، مفركة بيض، شوربة خضار، كفتة بطحينية، كفتة بالبندورة وانواعاً من السلطات.
وعندما اجتمعنا في مدرسة بصيرا الإعدادية عام 1970. كنا 6 معلمين نسكن في بيت مستأجر واحد: مديرنا خليل الطرشان وعبد مقبل الهلول وإبراهيم العواجي القطاطشة ومحمد القرارعة وموسى القرارعة وانا.
كنتُ طبّاخ الفريق. وكان عبد مقبل الهلول وإبراهيم العواجي القناصَين اللذين هما من امهر من عرفت من القناصين. كانا يغيبان ساعتين او ثلاثاً، فيعودان بعدد من طيور الحجل والشنانير المكتنزة. فيتولى الشباب تجهيزها وأتولى تحميرها وطبخها مع كمية كبيرة من البصل والفلفل الحار والبطاطا والبندورة.
وبدون ادعاء و منفخة، كانت رائحة تلك الطبخة «بتجيب التايه» !!
بقيت 9 شهور طباخ فريق المعلمين في مدرسة بصيرا الإعدادية، قبل 54 عاما، دون ان يتسمم احد منا غذائياً !! ودون ان يتم عزلي واستبدالي، مما يدلل على النجاح. ولا أظن ان اعتمادي ذاك كان بسبب انعدام البديل، فالرجال يجدون البدائل بلا انقطاع او صعوبة !!
وحين ترشحت للانتخابات النيابية عن محافظة الطفيلة عام 1993، حصلت على دعم قوي معلن، من زملاء تلك الأيام الجميلة، أسهم في نجاحي وحصولي على المرتبة الأولى.
***
كان معلمي سالم الشاويش نبيلاً، كريماً، طيباً، هادئاً، ودوداً، ماهراً وذا وجه باسم.
كنت آكل ما طاب لي في ذلك المطعم، «تبغددت». وواظبت على تناول طبق الفطور المفضل حتى اليوم: الحمص باللحمة المقلية بالسمن البلدي.
لقد عوّضت كثيراً من الحرمان، بعِلم المعلم النبيل الطيب. وتحررت من استعباد «المذبلة» التي كانت وجبة الغداء شبه اليومية، وهي باختصار قلاية البندورة بدون لحمة !! كذلك أكلت «كفتة» بما فيه الكفاية.
**
كنت أعمل بمتعة كبيرة، نحو 20 ساعة في اليوم، من الساعة الرابعة فجرا وحتى منتصف الليل، ولم اكن أشعر بالتعب او الملل. لقد انصرفت إلى عملي كلياً، لم يكن يراقبني أحد، علماً انه لم يكن مطلوبا مني ان اعمل طيلة كل تلك الساعات.
ولما لاحظ المعلم سالم انني أضع كل جهدي وعقلي وقلبي في عملي، ضاعف أجرتي التي كانت خمسة قروش في اليوم.
لقد تكررت معي حكاية مضاعفة أجرتي مرتين أخريين، بسبب انكبابي وعكوفي الكامل على العمل الذي يوكل إليّ، وإتقاني التام له. فالعمل عندي أولاً وعاشراً وألفا.
كانت المرة الأولى في صحيفة الأخبار عام 1978عندما ضاعف فؤاد سعد النمري راتبي الشهري وكان 90 ديناراً.
وكانت المرة الثانية عندما عملت براتب شهري مقداره 150 ديناراً، مع مريود التل وطارق مصاروة، سكرتيراً لتحرير مجلة الأفق السياسية الأسبوعية التي أصدراها عام 1982 وتم اغلاقها بعد 6 شهور، لأنها ANTI AMERICA
كنت أعمل في ذلك المطعم الذي يقع على خط بغداد- عمان. دمشق- عمان، بمتعة لا تدانيها متعة، أبدأ من الساعة الرابعة صباحاً او قبل ذلك أحيانا، إلى ما بعد منتصف الليل. ولما رأيت ان العودة عند منتصف الليل إلى البيت، الذي يقع خلف سكة الحديد في الجهة الغربية من المفرق، متعب وشاق، وترافقه مخاطر مهاجمة الكلاب الضالة، أحضرت من البيت فرشةً وغطاء خفيفاُ وأصبحت أنام في المطعم. أُغلِقُ البابَ واجمعُ اربعَ طاولات، افرش عليها «يطقي» وانامُ اعمقَ نوم يحصل عليه انسان.
كنت سلطان زماني. اتمتع واتلذذ بالاستقلالية الزاهية والقيادة والإدارة والثقة التي أولانيها المعلم سالم الشاويش، الذي كان يحضر إلى المطعم في العصاري، يمكث مدة 3 ساعات، أعمل له خلالها «نفَسَي تمباك عجمي» يكركر عليهما وهو يلعب طاولة الزهر أمام المطعم مع أصدقائه. ثم ينصرف لأشغاله الأخرى، بعد أن يستلم «غلة» المطعم الوفيرة، مطمئنا إلى أن المطعم بيد امينة.
بعد 35 عاماً، عندما كنت وزيراً للشباب في حكومة زين الرجال دولة عبد الكريم الكباريتي، الذي كان يضع هو الآخر ثقة مطلقة فيّ، ذهبت إلى مدينة المفرق وقدمت أحرّ التعازي لأسرة وزوجة معلمي الطيب الكريم الودود الشهم، العم سالم الشاويش.
***
في المفرق، على طريق بغداد- دمشق- عمّان، قرب سلسلة المطاعم الشعبية المتخصصة في خدمة الحافلات والشاحنات والمركبات، العابرة ذهاباً وإياباً، توقفت حافلةُ الحجاج العراقيين.
في تلك اللحظة الجميلة، كنت أعبر إلى الجهة المقابلة، حيث ملعب كرة القدم، حين أخرجت صبية جميلة نصف رأسها من نافذة الحافلة، فتجلّت لي ملاكاً، ذات عينين رحبتين أسطوريتين، بحجم القمر في تمامه.
كنت صبياً في الرابعة عشرة، في أول تفتح الرجولة وربيعها وإقبالها واقتحامها.
قالت لي الفتاة العراقية الملاك، بغنج إمرأة، لمست نقطةَ ضعف محدثها الفتى اليافع:
شنو إسمك عيني !!
اختبطتُ.
هبلتني الفتاة. لحست عقلي.
الفتاة ذات أجمل عينين خلقهما الله تقول لي عيني !
لي أنا تقول عيني.
كانت تلك أول مرة تقولها لي فتاة بهذا الحسن أو بنصفه أو بربعه؟
قلت وأنا ارتعد: إسمي محمد. أنا محمد حسن سليمان الداودية.
قالت وهي تفرط في الدلال والإبتسام: عيني أبو جاسم، ممكن موي بارد.
ويلي، للمرة الثانية تنفحني هذه الفتاة الفاتنة، التي أَحبّها اللهُ، فخلقها في أحسن تقويم، كلمة عيني.
لم ادخل في غيبوبة، دخلت في الدهشة والرفرفة. أجنحة زهو اخذت تنبت لي،
أجبتها بفرح متدفق، وانا لمّا أزل في تمام الإنبهار والإنتشاء:
طبعا. طبعا. دقيقة «عيني» ويكون الماء البارد بين يديك.
وثبتُ كالنّمر. أحضرت لها إبريقَ ماء مليئا بالثلج، وضعت فيه وريقات نعنع وقطرات ليمون وقطرات من ماء الورد، من مطعم المعلم سالم الشاويش القريب، الذي كنت أعمل فيه في العطل الصيفية.
انتبهت فاتنتي إلى انني أكاد أنهار، وانني بدأت اتداعى وانني أخذت أذوب من فرط إعجابي بعينيها، فمنحتني إياهما طويلاً طويلاً، لعلها 10 ثوانٍ، كانت أكثر من كافية، لتظل عيناها السخيتان في خاطري 60 عاماً، منذ ذلك اليوم الجميل إلى هذا اليوم الجميل، انا، ما أزال إلى اليوم احتفظ بطراوة صوتها الناعم الباذخ الرطب السخي، ذي الطبقات المتدرجة الملونة كقوس قزح، القريب من صوت محبوبة جيلنا سعاد حسني.
وما أزال احتفظ بعينيها السوداوين المتوهجتين في منطقة بمحاذاة القلب. وما ازال احتفظ بدهشتي من كثافة شعرها الفاحم المضفور.
وها انذا، أستحضر بسمتها الكريما الخفيفة. وذراعها البض المزدان بإسوارة ذهبية ناعمة. وقميصها نصف الكم الخفيف المقلم باللونين الأبيض والأسود. وعباءتها السوداء الشفافة. وحبيبات العرق الذهبية على جبينها الأسمر.
لقد اوشكتُ أن استجمع شقاوتي، لأَثِبَ إلى نافذة الحافلة، فأمسح حبيبات العرق عن جبينها بطرف قميصي النظيف.
عندما أخذت الحافلةُ تتحرك، وسط حسرتي التي قبضت قلبي، سألتها وأنا أعدو خبباً بمحاذاة الحافلة: شنو إسمك «عيني»، شنو إسمك ؟
اخرجت كامل ذراعها البض من النافذة ولوّحت لي بلا توقف وهي تقول: فاطمة عيني، فاطمة.
يا لكرم هذه الحاجة يا لعذوبتها.
أنا ما ازال اذكر فاطمة بكامل روائها وبهائها وغضاضتها ونداوتها وسطوة عينيها الباذختين، كلما سمعت المطرب العراقي سعدون جابر يغني «يم العيون السود ما جوزن أنا، خدك القيمر أنا اتريق منا».
ولم يكن في الأمر «ريوق» !!