الحقيقة المواربة

رمزي الغزوي

يسعدني في مفتتح نيسان البهي تقديم نصيحة مطبخية اختبرتها أكثر من مرة حينما كنت طالبا جامعيا، أن على الذين ارتبكت أياديهم من التعب؛ فزادوا ملحاً على طبختهم أن يقشروا حبة بطاطا ويقطعونها إلى دوائر يلقونها في الطنجرة؛ فتعدّل لهم المذاق بعد أن تسحب الملوحة الزائدة. هذه النصيحة لن تكون مجدية مع طنجرة عالم متخم بملح الأكاذيب، ولو ألقينا فيها محاصيل الأرض من البطاطا.

لا أعرف من صاحب فكرة ربط الكذب بالملح، ولا يعجبني أبداً ذلك المثل الشعبي المتواطىء مع الشيطان؛ حين يدعي أن الكذب ملح الرجال، مفترضا أن الحقائق الحلوة في علمنا تحتاج بعضاً من الأكاذيب كما تحتاج الطبخة إلى ملح بمقدار. ولهذا كانت كذبة نيسان.

ارتبط الملح دوماً بالحقائق الواضحة لا بالأكاذيب الباهتة التي لا تصمد لحظة في مواجهة الحق. وارتبط بالخصوبة والنماء السريع، بسبب الملاحظة الظاهرة أن أسماك المياه المالحة تتكاثر بسرعة وقوة أكبر من تلك التي تحيا في مياه العذبة، لكن حين يتساوى رش الموت بالسكر مع تمليح الرجال بالأكاذيب، ندرك أننا نحيا في عالم لا يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويأبى إلا أن يلون أكاذيبه بالأسود والأحمر والأبيض. وسيبقى أشد الألوان قهراً ووجعا، هو الكذب الرمادي، أو الحقيقة المواربة.

إذا كنا نستطيع أن نحتال على بيضة غارقة بالماء؛ فنجعلها تطفو على السطح بإضافة قليل من الملح، فإننا لن نقدر مهما بلغنا من الحيلة والخبرة أن نجعل الزائف حقيقياً، ولو جئنا بملء الأرض ملحاً. وإذا كنا نستطيع نزع الماء من شرائح البطاطا قبل القلي عن طريق رشها بملح ( وهذه نصيحة ثانية)؛ فإننا سنفشل بانتزاع قطرة حقيقة واحدة، مهما رششنا من أكاذيب على واقعنا.

ولهذا نتذكر بمناسبة كذبة الأول من نيسان، أن الفرنسيين يسمون تلك الكذبة بالسمكة الصغيرة، حيث من السهولة أن تقع في الشبكة، حتى ولو كانت من حبال قصيرة تشبه الأكاذيب الطويلة؛ لأن الشبكة هي الحقيقة الوحيدة في عالم السمكة حين تصطاد.

اليوم يغيب عن بال نماذجنا الكبرى ما قاله السيد المسيح عليه السلام لتلاميذه، أنتم ملح الأرض؛ وإن فسد الملح فبماذا يُملّح؟، ويغيب عن بالهم أيضاً، أن الملح يفسد وقت يختلط بالتراب والشوائب. ويغيب عن بالنا أننا نستطيع تنقية حياتنا من أكاذيبها بلحظة صدق واحدة مع أنفسنا.