رسالة إلى وصفي التل

جفرا نيوز - بقلم عامر طهبوب

سلام الله عليك يا «أبو مصطفى»، سلام على روحك، وعلى ذكراك، وعلى مثواك في «الكمالية»، وسلام على أزهار الدحنون والبسباس، وأشجار الزيتون في بستان بيتك، وقد أحببت في هذا اليوم الذي يصادف ذكرى رحيلك، أن أناجيك، وأخاطبك، وأزجي لك بهذه الرسالة التي فيها من البوح ما فيها من الجرح في أيام عصيبة علينا.

تذكرت الرسالة التي كنتَ وجهتها وأنت في فلسطين عام 1950 لصديقك المقدسي برهان الدجاني، تدعوه فيها إلى العودة إلى فلسطين، يوم قلت له: «تعال، وتلمّس النكبة بنفسك، ولا تيأس، ولا تلق سلاحك، تعال، ولتكن أنت الدرع مرة أخرى لصد العدوان، واسترجاع ما ضاع من الديار». تعال يا «أبو مصطفى»، وتلمس النكبة بنفسك اليوم. هل تذكر تلك الرسالة التي قلت فيها: لماذا ينتابني شعور بالاستعلاء جارف، وأنا أكتب لك من فلسطين.

هل تدري يا «أبو مصطفى» أن أمتك «على حَطّة إيدك»، ما زالت على حالها، وما زال الفلسطيني يتعرض في الديار إلى الدمار، وغزة التي تعرفها، والتي قاومت مشروع التدويل في بداية الخمسينات من القرن الماضي، تتعرض الآن إلى التدمير ومحاولات التهجير من جديد، وغزة اليوم لن تعرفها لو عدت إلى المشهد مرة أخرى، لعلها تشبه هيروشيما أو ناغازاكي، أو ستاليننغراد، لكن أهلها ما زالوا صامدين.

أحفادك من رجالات الخدمات الطبية الملكية يقفون هناك في الميدان لتطبيب الجرحى، وتخفيف آلام شعب غزة، ونحن نعيش الآن في هدنة مؤقتة مع العدو بدأت منذ أيام، ولعلها تستمر أياماً أخر، لكن العدو يعتزم مواصلة الحرب على غزة. الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يسرّك لو كنت حاضراً هو فعل المقاومة في الداخل، وقد كنت من مؤيدي العمل الفدائي في الداخل الفلسطيني، وكنت تؤمن أن الأرض لن تتحرر إلا بمقاومة مسلحة على الأرض نفسها التي احتلتها إسرائيل.

«أهلنا الغرابا» يا «أبو مصطفى» يعانون الأمرّين، في غزة، وفي الضفة، في السجون وفي البيوت ومخيمات اللجوء. تخيل أيها الأخ الشهيد أن من لجأ إلى غزة عام 1948، وأقام في جباليا، وفي مخيم الشاطئ، قصفته الطائرات الإسرائيلية في هذه الأيام، تخيل أن يلجأ اللاجئ ثانية إلى مخيمات اللجوء، تخيل أن ما سمعه الولد عن جده من عذابات الخيام، و»بقج» المساعدات، يعيشه في غزة اليوم على حدود خان يونس ورفح، بانتظار علبة من الفول المدمس أو سمك التونا.

«أهلنا الغرابا» يخوضون معركة البقاء، ويدفعون أثماناً باهظة في سبيل الثبات على الأرض، جوّعوا وعطّشوا، حرموا من الدواء، والوقود، والكهرباء، ولكنهم لم يرحلوا، والأردن كما عهدته في أيام الحسين، صامد، صلب، يقف بكل ما يملك من أجل مؤازرة أهل فلسطين، وحماية مشروعهم الوطني في التحرر والاستقلال، ولكني سأصدقك القول: ما زال هذا الوطن الذي يبذل الغالي والنفيس من أجل فلسطين، يعاني من التجني، والتشكيك بأمانته، ودوره، وفعله، وما زالت الشائعات والفبركات والمؤامرات تحاك لهذا الوطن، كثيرة هي الوشوشات، والمزاودات، ومحاولات انحراف حتى المسيرات المؤيدة لأهل فلسطين عن مسارها، وانحراف الشعارات والأناشيد والمرجعيات عن دربها الصحيح، لكن الأردن اعتاد منذ أيامك على تعمّد إساءة الفهم، ولا يؤثر كل ذلك على ثوابته ومبادئ المملكة.

ما يثلج الصدر وحدتنا الوطنية، هل تعرف يا «أبو مصطفى» أن رجالات الدرك، وضعوا على صدورهم أيقونة تحمل العلمين الأردني والفلسطيني؟ أصبحت الحطّة والكوفية، السوداء والحمراء، واحدة للصيف وأخرى للشتاء، ووحدة الضفتين التي تعرفها، غدت قائمة دون تصويت مجلس أمة، قائمة في روح الأمة، ووجدانها؛ تلك اللحظة الوحدوية التاريخية التي رأيتها أنت في وحدة الضفتين، ودعوت للحفاظ على إرثها، ما زالت قائمة، وتزداد تعاضداً، وتجذراً، وترسخاً، وثباتاً وقوة.

«عقيد القوم» الذي نحبه ونلتف حوله، الملك عبد الله بن الحسين، ابن أبيه، وعلى خطى الحسين، وعلى ثوابت الأردن في الدفاع عن الحق الفلسطيني، والوقوف إلى جانب «أهلنا الغرابا»، و»الشريعة» تجمعنا، النهر يوحدنا، قلبنا على الضفة الغربية وغزة، وقلبنا على وطننا الأردني الذي تحرسه عيون النشامى وسواعدهم التي تحمل السلاح، وتحرس الحدود. ليتك كنت بيننا يا «أبو مصطفى» لتحمل البندقية في يد، والفأس في يدك الأخرى، وتدعو كما كنت تفعل، إلى الوحدة والحرية.  

لا أريد أن أطيل عليك، رايتك مرفوعة، ورسالتك محفوظة، ومدرستك قائمة، ونحن بخير رغم الألم، لا نيأس، ولا نتخلى عن الأرض، ولا نخون العهد، ونردد أن الزبد يذهب جفاءً، وأن ما ينفع الناس، يبقى في الأرض، وسلام عليك أيها الشهيد الغالي، ورحمة الله ورضوانه وبركاته.