هل عززت حرب غزة فرصة الأردن في قيادة العرب؟
جفرا نيوز - كتب - د. دانييلا القرعان
بلغة بسيطة، بعيداً عن الإنشاء والبلاغة، تلتقي القيادة الرسمية مع الإرادة الشعبية في الأردن، فالأردن قيادة وحكومة وشعباً وقفا ويقفا دائماً مع الحق العربي أينما كان، ويتجلى ذلك في جميع القضايا التي تهدد وجود الأمة العربية والتي على رأسها الصراع العربي الإسرائيلي المتمثل بالقضية الفلسطينية، ويعتبر الأردن من أكثر الدول تأثراً بهذه القضية بسبب وحدة الجغرافيا والتاريخ والمصير، إضافة لمسؤولياته المناطة بالرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، هذا الموقف الموحد للقيادة والحكومة والشعب عبرت عنه رؤى جلالة الملك عبد الله الثاني في كافة المحافل الدولية والإقليمية ودعمها ونصرها الشعب الأردني بكل توجهاته وأطيافه وخاصة منذ اليوم الأول للحرب الأخيرة على غزة، والتي صادفت في 7 من أكتوبر لعام 2023 والتي تتمثل بضرورة وقف الحرب أولاً والكشف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي تصنف على أنها "جرائم حرب”.
الموقف الرسمي والشعبي منحت صناع القرار وهي مؤسسة العرش كذلك ارتياحاً أكبر ومساحة أوسع كي تنشط بالعمل السياسي، وبالوقت نفسه، منحت القاعدة الشعبية الحرية المطلقة في التعبير عن الرأي المتمثل السماح في تنظيم المسيرات والمظاهرات والوقفات اليومية في الساحات العامة وأمام السفارات والممثليات الدولية سواء في العاصمة الأردنية أو باقي المحافظات الأخرى.
وقد لفت رئيس الوزراء بشر الخصاونة في تصريح له أمام مجلس النواب من فترة قريبة الى هذا التوجه حيث قال إنه لا توجد خطوط فاصلة بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي في الأردن فيما يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بسيادة غير منقوصة على خطوط الرابع من يونيو لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، فالحل السياسي الذي يتمسك به الأردن على الدوام هو حل الدولتين، والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الرسمي والوحيد عن الشعب الفلسطيني.
الموقف الأردني
وبالتالي، فإن الموقف الأردني من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في معركة طوفان الأقصى يتجلى بأنه الأكثر اتزاناً، فالدعوة إلى وقف التصعيد تعد خطاباً مقبولاً لدى الشارع الأردني كما هو لدى المجتمع الدولي على حد سواء، وقد أكد الشارع الأردني بعفويته الصادقة على أهمية بناء حالة وطنية مشتركة في توحيد الموقف الوطني من دعم المقاومة الفلسطينية من قبل كافة الأحزاب والنقابات والعشائر الأردنية، وقد قدمت الحكومة الأردنية دعمها اللامتناهي تجاه أهل قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الى أبعد الحدود، والذي يتمثل بوجود مستشفى عسكري ميداني أردني في غزة، ويعد أول مستشفى عربي يتم إنشائه بتوجيهات ملكية سامية منذ العدوان الأول الواسع على قطاع غزة والذي بدأ في السبع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008 واستمر 23 يوما حتى الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) من عام 2009، وبعد انتهاء العدوان بنحو 10 أيام، بدأ المستشفى عمله في غزة كأول مستشفى عربي في القطاع. وتشرف الحكومة الأردنية أيضا على جمع التبرعات وترسل المساعدات عبر هيئة إغاثة ملكية بمستوى رفيع ذات موثوقية من خلال الشقيقة مصر لإدخالها عبر معبر رفح.
كما تقوم على الصعيد السياسي بحشد الطاقات والجهود بالتنسيق مع الأشقاء والأصدقاء للعمل على وقف إطلاق النار وترتيب ممرات إنسانية لعبور المساعدات وخروج الجرحى للعلاج، وهذا الأمر جعل المواطن الأردني يشعر بارتياح كبير فيما يتعلق بموقف دولته الثابت تجاه القضية الفلسطينية التي لا تتوانى بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في مختلف المحافل الدولية، ونؤكد هنا على أن حالة الانسجام بين الموقف الرسمي والشعبي منحت صناع القرار وهي مؤسسة العرش كذلك ارتياحاً أكبر ومساحة أوسع كي تنشط بالعمل السياسي.
"تحركات دبلوماسية"
كما أتت مشاركة الأردن في مؤتمر القاهرة للسلام، في الواحد والعشرين من تشرين الأول -اكتوبر والمنعقد في القاهرة، ومؤتمر القمة العربية الإسلامية المنعقدتين في الرياض في الحادي عشر من تشرين الثاني-نوفمبر، بالإضافة الى قمة ثلاثية كان من المفروض عقدها في العاصمة الأردنية عمان بحضور الرئيس الأمريكي والرئيس الفلسطيني، لكن تم إلغاؤها من قبل جلالة الملك عبد الله الثاني؛ بسبب الأحداث والمجزرة التي تحدثت في مستشفى المعمداني تزامنا مع بدء القمة.
بالإضافة الى الزيارات الأوروبية لجلالة سيدنا الى فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والكثير من الدول والمدن الأوروبية لكسب التأييد لوقف الحرب في غزة، هذه التحركات الدبلوماسية جاءت لترسخ هذا التلاحم بين القيادة والشعب، وقد أجمع الجميع على أن كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني المعظم وضعت الأصبع على الجرح حيث أشار جلالته الى جهود الأردن في وقف العدوان وفي دعم الأهل، ولعل جزئية المهام التي يقوم بها المستشفى الميداني العسكري العامل في غزة وإصرار الأردن باستمراره في تقديم خدمات الرعاية الصحية للأهل وتوصيل المساعدات واللوازم الطبية والاحتياجات بشتى الطرق بما فيها طريقة الإنزال المظلي عبر طائرات سلاح الجو الملكي الأردني لخير دليل على هذه الجهود التي تتم على أرض الواقع بعيداً عن الشعارات والخطابات، ولعل اخر الجهود الميدانية تبرع جلالة الملك من فترة أيام فقط بحاضنات للأطفال لبعض مستشفيات غزة حيث ينم هذا على شعور القيادة الأردنية بخطورة الوضع الصحي لأطفال غزة على وجه التحديد.
مجددا يؤكد جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم أن ما يتفوه به هو بلسان أردني هاشمي عروبي، ويكرر جلالته بكل صلابة أن الأردن كان وسيبقى الداعم الأول والناصر للقضية الفلسطينية، وهو صمام الأمان لتأسيس دولة فلسطينية حرة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وأن الحل السياسي دائما هو ما يفضي الى نتيجة.
بحث وقف الحرب على غزة، والأحداث الخطيرة في الأراضي الفلسطينية، والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، وتوفير الممرات الإنسانية، والإفراج عن الرهائن، وحفظ الأرواح، وفشل مجلس الأمن والمجتمع الدولي في مواجهة خرق القانون الدولي وازدواجية المعايير، سببا لانعقاد القمة العربية الإسلامية في الرياض، ومؤتمر القاهرة للسلام والتي يشارك فيها قادة الدول وزعمائها. جلالة الملك يبهرنا دائما في خطاباته التي يلقيها في كل المحافل الدولية والإقليمية أنها تأتي بالصميم، لكن خطابة اليوم أمام زعماء الدول العربية والإسلامية في كل المحافل الدولية والاقليمية كان ذات طابع خاص ويتماز بأهمية عباراته المبطنة التي تحمل في ثناياها الكثير من الكلام والرسائل.
مستشفى ميادي عسكري أردني ثان
بعد أن كان المستشفى الميداني العسكري الأردني في حي تل الهوى في قطاع غزة، أول مستشفى عربي تحط أقدامه تراب غزة، لم يكتفي الأردن بهذا المستشفى الذي شهد له كل العالم وأهل غزة، على أهمية الخدمات الصحية في علاج المرضى والمصابين، بدأ الاردن بخطى ثابتة وبتوجيهات ملكية سامية بإنشاء مستشفى ميداني أردني عسكري ثان في خان يونس، ومما يزيد من الفخر أيضا مكالمة جلالة القائد لطاقم المستشفى الميداني في غزة للاطمئنان عليهم، بذات الوقت هبط ولي العهد الأمير الحسين وبالزي العسكري في مطار العريش؛ لتيسير أعمال انشاء مستشفى ميداني ثان في غزة، ليصبح عدد المستشفيات الميدانية العسكرية الاردنية في الضفة المحتلة ثلاثة، بعد افتتاح اعمال مستشفى ميداني في غرب نابلس.
تصريحات ملكية
"منطقتنا العربية قد تصل الى صدام كبير يدفع ثمنه الأبرياء من الجانبين وتطال نتائجه للعالم كله، إذا لم يتم وقف الحرب البشعة الدائرة الآن في قطاع غزة تحديدا”، بهذه العبارة التي تحمل في كل كلمة منها الكثير من الألفاظ والرسائل يفتتح جلالة الملك حديثه في كل مكان، ويركز الى أن العالم أجمع قد يصل الى صدام كبير لا ينتهي إذا لم يكن هناك مساعي حقيقية لوقف صنبور الدم في قطاع غزة.
سبعة عقود والشعب الفلسطيني يعيش مأساة حقيقية لا تتوقف، قتل وتهجير واستيلاء ومجازر جماعية وجدران العزل وهدم للبنية التحتية، وطمس للهوية الفلسطينية، والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعلى الحقوق المشروعة، وسياسية التهجير لسكان الضفة الغربية وقطع غزة، كل ذلك وما يحدث الآن ليس وليد اللحظة أو بمحض الصدفة وإنما هو امتداد لسبعة عقود عاشها الشعب الفلسطيني يوما بيوم بكوارث إنسانية ووحشية غالبية ضحاياها المدنيون الأبرياء.
هذا الحديث كان امتدادا لأمر في غاية الأهمية والخطورة عندما تحدث جلالة الملك عن ” عقلية القلعة ” ويقصد بها جلالته العقلية الإسرائيلية التي تريد تحويل غزة الى مكان غير قابل للحياة، وهذه العقلية ” عقلية القلعة” هي امتداد لسبعة عقود مارس فيها الاحتلال الإسرائيلي بهذه العقلية الوحشية أبشع الجرائم والتي ترتقي الى جرائم حرب، ويريد بهذه العقلية التي يتبناها ويفكر بها الاحتلال الإسرائيلي الى تحويل غزة وهو الهدف المحدد له الآن الى جحيم لا يطاق، من حيث استهداف المساجد والكنائس والمستشفيات، وقتل الأبرياء المدنيين والأطباء وفرق الإنقاذ والإغاثة، وحتى الأطفال والشيوخ والنساء.
” عقلية القلعة” كما اسماها جلالة الملك عقلية لا تريد السلام ولا وقف نزيف الدماء، وهذه العقلية التي مارس من خلالها الاحتلال كل ما يتجاوز ويخالف القانون الدولي الإنساني والمنظمات الدولية وحقوق الانسان والتي ترتقي الى جرائم حرب يجب ان يحاسب عليها.
جلالته في كل خطاباته التي تكون أساسها القضية الفلسطينية يتحدث عن حل الدولتين وهو السبيل الأمثل لإحلال السلام، ودائما يوجه جلالته تساءل مهما لكال العالم تزامنا مع حرب 7 أكتوبر على قطاع غزة، ومقال جلالته في واشنطن بوست الذي تحدث عن حل الدولتين انتصار لإنسانيتنا.
هل كان على العالم أن ينتظر هذه المأساة الإنسانية المؤلمة والدمار الرهيب حتى يدرك أن السلام العادل الذي يمنح الاشقاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة على أساس حل الدولتين هو السبيل الوحيد للاستقرار والخروج من مشاهد القتل والعنف المستمرة من عقود؟ بهذا التساؤل لخص جلالته أهم المرتكزات التي يجب الاهتمام بها للوصول الى حل عادل وشامل لكلا الطرفين وهو حل الدولتين، غير ذلك ستبقى الأمور وتزيد تصعيدا دمويا أكثر من الآن.
جلالة الملك المعظم لم يتوانى للحظة عن اتهام المجتمع الدولي بالتقصير والفشل في انصاف الشعب الفلسطيني ونيله لحقوقه المشروعة، وفشلهم في ضمان حقوق الفلسطينيين في الكرامة وتقرير المصير وقيام دولتهم المستقلة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وكأن جلالته يلقي اللوم والتقصير على كل الزعماء والقادة الذين يقودان المجتمع الدولي في تحديد مصير الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع إبادة جماعية على مر التاريخ. جلالته يؤكد أنه لا يمكن السكوت على ما يواجه قطاع غزة من أوضاع كارثية تخنق الحياة وتمنع وصول العلاج، بل أكد جلالته أيضا أن تبقى الممرات الإنسانية مستدامة وآمنة، وشدد على انه لا يمكن القبول بمنع الغذاء والدواء والمياه والكهرباء عن أهل غزة، فهذا السلوك هو جريمة حرب يجب ان يدينها كل العالم، وتحدث جلالته عن الدور الأردني في ارسال المساعدات الإنسانية للأشقاء الفلسطينيين بكل الوسائل الممكنة.
لقد كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن غزة انتصارا للقيم الإنسانية، وانحيازا للحق في الحياة والسلام، وإجماعا عالميا برفض الحرب، وهو قرار جاء بجهد عربي مشترك، وهذا القرار يجب أن يكون خطوة أولى لنعمل معا لبناء تحالف سياسي لوقف الحرب والتهجير أولا وفورا، والبدء بعملية جادة للسلام في الشرق الأوسط وعدم السماح بإعاقتها تحت أي ظرف، وإلا فإن البديل هو التطرف والكراهية والمزيد من المآسي، وتحدث جلالته على أن قيم الإسلام والمسيحية واليهودية وقيمنا الإنسانية المشتركة لا تقبل قتل المدنيين أو الوحشية التي تمثلت أمام العالم خلال الأسابيع الماضية من قتل ودمار. ولا يمكن أن نقبل أن تتحول قضيتنا الشرعية العادلة إلى بؤرة تشعل الصراع بين الأديان. ونقول للعالم كله، ولكل مؤمن بالسلام وبكرامة البشر مهما كان دينهم أو عرقهم أو لغتهم، إن العالم سيدفع ثمن الفشل في حل القضية الفلسطينية، ومعالجة المشكلة من جذورها.
باختصار، إن معركة طوفان الأقصى أحيت القضية الفلسطينية من جديد، وجعلتها تحتل الصدارة مرة أخرى لدى المجتمع الدولي، وبغض النظر عن الخلافات العربية، أو العربية الإسرائيلية، فهي أعطت زخماً عربياً جديداً لإحياء مبادرة السلام العربية وجهود القيادة الهاشمية في إقامة السلام الدائم والعادل في منطقة الشرق الأوسط. تتحول قضيتنا الشرعية العادلة إلى بؤرة تشعل الصراع بين الأديان. ونقول للعالم كله، ولكل مؤمن بالسلام وبكرامة البشر مهما كان دينهم أو عرقهم أو لغتهم، إن العالم سيدفع ثمن الفشل في حل القضية الفلسطينية، ومعالجة المشكلة من جذورها.