المطر الموشى بالحنين
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
يسمي الفلاحون أول لقاء بين السماء والأرض بشتوة المساطيح، ومفردها مسطاح، فهم كانوا إذا ما جادت السماء بباكورة نعمها فجأة هبوا إلى الزبيب (العنب المجفف) والقطين (التين) المنشور على أسطح البيوت، وجمعوه بسرعة خوف أن يتلفه المطر.
ولأن لا خوف لدينا الآن سنُسمِّي أحب الأشياء إلينا بأسمائها الأولى. فالغيوم الماخرة عباب هذه السماء الدائخة بالغبار والأكياس البلاستيكية، ليست إلا رقصة نشوة أو لمة عرسٍ على بوابة المساء. دعونا نقول عن ذلك المطر الأول الذي دهمنا بأنه قبلة بكر بين أرض عطشى وسماء ظلت تتلوع شوقاً منذ حنين. هو المطر الأول أيتها الصباحات الموشحة بالبركة ذلك العناق المحموم المترع بلهفة الغائبين.
لربما لم يفتكم أن تتنفسوا هواء متواشجاً غباراً وماءً عقب اللقاء الأول السريع؟!، فمن منا لم تدوخه تلك البهجة العارمة إذ تجللنا رائحة المطر الأول؟!، فكم تمنينا ذات طفولة لو تبزغ لنا أجنحة النشوة؛ لنطير ونعصر قطن السماء الملبود ونمص ماءه المكنوز؟!، فكم نتوق للمطر ورائحة اللقاء بعد صيف ساطنا بقيظه ولهيبه.
نتوق لهذا للمطر المباغت كضيف مساء مرغوب. ونتشوق بأكثر من لهفة للمطر الأول الخجول، ونهيم جنوناً برائحة التراب العابقة في الأرجاء والشرفات وحمى الكروم وطلة البساتين. نتوق لفوح (الطيون) الممطور على غفلة من هذا الغيم الرشيق الذي كان يتيه في خاصرة السماء منذ أمنيتين، ونحنُّ إلى صحو سريع على ضربات أصابعه المدغدغة لشبابيك البيوت، ونتلهف لصعقة برق في أفق قريب. أهلاً بالمطر العاشق لينسج خيوطه بعضاً من مسراتنا الهاربة.
كنت أحتاج إليه وأنتظره على مفارق الوقت، وبوابات الخريف وقد تأخر قليلاً، كنت أحتاجه ليسري في عروقي المتكلسة بالخمول والمتاعب والروتين المملول، كنت أحتاجه ليطري ما تيبس من أحلامي المركومة تحت غباري التعيس. فليست وحدها أشجار الزيتون تحتاجك أيها المطر السخي، لتغسل عن خضارها النضير غبار الطريق وهباب السيارات، وليست وحدها توتتنا العريقة في باحة البيت، تحتاج أصابعك الناعمة لتنفض عنها ما تبقى من أوراقها الصفراء الآيلة للموت، فتتعرى تماماً لشتاء حميم، حالمة بربيع يأتي محملاً بالثمر الباذخ والحرير.
أحتاجك أيها الصديق لأعود طفلاً شغوفاً بالماء مثل حوت صغير، لا يريد أن يجنح لشواطئ الجفاف. أحتاج خيوطك كي أنسج كنزة لحبيبتي، وأتوق أن أصهل ملء مداي، وأتحمحم مثل حصان رامح إذا ما هزت الرعد سكون الكائنات. أهلاً بمطر الحنين الموشى بطعم القبلة الأولى.