صلالة البخور والربيع المختلف

جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

إن كان الغجرُ يلاحقونَ الشّمس إلى مصبها في المغيب، ويتبعون وهجها وسناءها على مدار الفصول، فبوصلة قلبي الملتاع تشير إلى اخضرار الجهات في كل الأوقات، فإن كان الربيع جنوباً؛ حجت روحي إليه وطافت فى مروج أزهاره، وحين يغرب لاحقته حثيثا حتى يؤول خريفا تذروه الذاريات، وإن غدا شرقاً تاقت إليه بشغفها المجنون.

منذ سنوات وروحي تهمزني أن أركب شغفي وأحج إلى ظُفار وصلالة في سلطنة عُمان الشقيقة، فبعد أن تشتد حنانية صيفنا، وتجز بمنجلها كل خضار يبزغ على بساط الأرض، يثور هناك ربيع مختلف غض لذة للعالمين. صحيح أن أهلها يسمونه خريفا، ولكنه لن يغير في الأمر شيئا، فليست تتطابق التسميات على المسميات في كل الأحوال.

هذا الخريف/ الربيع الذي تصنعه الرياح الموسمية القادمة من بحر العرب/ المحيط الهندي من نهاية حزيران إلى عتبات أيلول، يجمع الناس إليها من كل الجهات، ويجعل منها جنة مكتملة الألوان تستحق أن نطاوع أرواحنا ونسير إليها حتى على رؤوس أصابع الأشواق.

بعض المدن تقع في هواها حتى قبل أن تطأ ترابها وتتلمس غيومها البرية السارحة في معارج السماء، وقبل أن تشرب ماءها الطيب وتذوق لحم بحرها الشهي. صلالة من قماشة تلك المدن التي تأسرك وتوقعك في عشقها حين تمتشق خضارا يغني في جبالها وفيروزا يلوّن شطآنها الواسعة المفتوحة على الحياة.

الرياح الموسمية التي أتقن سرها العرب وعرفوا مواعيد هبوبها وخفوتها؛ فجعلت منهم سادة في زمن غابر. هذه الرياح تصنع ربيع صلالة المختلف. وهذا ليس كل شيء. بل سنتذكر هنا إمبراطورية عُمان، أو ما يسمى بعلم السياسة الاسقراطية عُمان، أي سلطة على الماء، حين كانت في أوج عنفوانها منتصف القرن التاسع عشر مغطية بسلطتها شواطئ الجزيرة العربية وإيران وباكستان وشرقي أفريقيا، وعاصمتها زنجبارا الشهيرة.

هذا الطقس الغريب جعل صلالة تكنز على جبالها أشجار اللبان العجيبة، الذي يستخرج منها البخور بعد جرح ساقها، تلك المادة التي كانت روحا للتجارة العالمية لأنها دعامة طقوس العبادات قبل الأديان السماوية وبعدها.

جئت صلالة مشغوفاً بربيعها وأزهاره الغريبة وأشجاره ورجعت منها مصحوبا بسحب من عطر اللبان وأذرع البخور المتصاعدة في تاريخ بني الإنسان. جئتها قارئا درب حضارات وأمم عديدة مرت بجبالها وحطت على شواطئها المفتوحة على قوافل مبهوجة بنفائس البضائع من جهات البحار والصحاري.

وثمة أيضا مدن تغادرها ولا تغادرك، بل تبقى في تلافيف روحك وتسكنك بكل وجدانك. صلالة من قماشة تلك المدن، وهذا ما أحسه بعد أيام قضيتها في جناتها رفقة أصدقاء برتبة أهل، وأهل برتبة أصدقاء.