عالم بلا ثقة

جفرا نيوز - استخدم صانعو السياسات والمحللون، عند بداية ظهور الأخطار الإلكترونية الرقمية، مفردات الصراع والكوارث. حذر جيمس آدامز، أحد مؤسسي شركة الأمن السيبراني آي ديفينس، في موقع «ذي فورين أفيرز»، من أن الفضاء الإلكتروني سيكون "ساحة معركة دولية جديدة"، حيث يمكن الفوز بالحملات العسكرية المستقبلية أو خسارتها. حذر مسؤولو الدفاع الأمريكيون في السنوات اللاحقة من «هجوم إلكتروني» على شاكلة هجوم «پيرل هاربور»، حسب تعبير وزير الدفاع آنذاك ليون پانيتا، أو على مثل " هجمات 11 سبتمبر، ولكن" وفقًا لوزيرة الأمن الداخلي آنذاك جانيت ناپوليتانو. وقال جيمس كلاپر، مدير الاستخبارات الوطنية آنذاك، في عام 2015، إن الولايات المتحدة يجب أن تستعد لـ «معركة سيبرانية» لكنه أقر بأنه ليس السيناريو الأكثر احتمالا. جادل المسؤولون بأن الفضاء الإلكتروني، ردًا على التهديد، يجب أن يُفهم على أنه «مجال» للنزاع وبـ «تضاريس رئيسة» يجب على الولايات المتحدة أن تحتلها أو أن تدافع عنها.

كشفت السنوات العشرين التي انقضت منذ تحذير آدامز أن التهديدات الإلكترونية والهجمات الإلكترونية لها أهمية كبيرة، ولكن ليس بالطريقة التي أوحت بها معظم التوقعات. لقد أدّى التجسس والسرقة في الفضاء الإلكتروني إلى تسريب كميات كبيرة من البيانات الحسَّاسة والخاصَّة. هددت العمليات المعلوماتية السيبرانية الانتخابات، وحرضت خروج حركات اجتماعية جماهيرية. كلفت الهجمات الإلكترونية الشركات مئات المليارات من الدولارات. ومع أن التهديد السيبراني حقيقي ومتزايد، فلم تثبت أي من التوقعات حول أن الهجمات الإلكترونية ستخلق آثارًا مادية واسعة النطاق تشبه تلك الناجمة عن التفجيرات المفاجئة على الأراضي الأميركية، أو أنها ستدفع الدول إلى صراع عنيف، أو أن ما حدث/يحدث في مجال الفضاء الإلكتروني سيحدد من ربح أو خسر في ساحة المعركة. في محاولة تشبيه التهديد السيبراني بعالم الحرب الجسدية، فات صناع السياسة الخطر الأكثر غدرًا الذي تشكله العمليات الإلكترونية: كيف تقوض الثقة التي يضعها الناس في الأسواق، والحكومات، وحتى القوة الوطنية.

يعد التشخيص الصحيح للتهديد أمرًا ضروريًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه يشكل كيفية استثمار الدول في الأمن السيبراني. التركيز على الأحداث الفردية، التي يحتمل أن تكون كارثية، والتفكير في الغالب في الآثار المادية المحتملة للهجمات الإلكترونية، يعطي الأولوية بشكل غير ملائم للقدرات التي ستحمي من "الهجومات الكبيرة": الاستجابات واسعة النطاق للهجمات الإلكترونية الكارثية، والإجراءات الهجومية التي تنتج عنفًا جسديًا، أو فرض العقوبات فقط على أنواع الهجمات التي تتجاوز العتبة الإستراتيجية. هذه القدرات والاستجابات غير فعالة في الغالب في الحماية من الطريقة التي تقوض بها الهجمات الإلكترونية الثقة التي تدعم الاقتصادات والمجتمعات والحكومات والجيوش الحديثة.

إذا كانت الثقة على المحك، وقد تآكلت بالفعل، فإن الخطوات التي يجب على الدول اتخاذها للبقاء والعمل في هذا العالم الجديد مختلفة. يتمثل الحل في مواجهة هجوم إلكتروني على شاكلة هجوم «پيرل هاربور» في القيام بكل ما هو ممكن لضمان عدم حدوثه، ولكن الطريقة للحفاظ على الثقة في العالم الرقمي، على الرغم من حتمية الهجمات الإلكترونية هي بناء المرونة؛ ومن ثم تعزيز الثقة في أنظمة اليوم للتجارة والحكم والقوة العسكرية والتعاون الدولي. يمكن للدول تطوير هذه المرونة من خلال استعادة الروابط بين البشر وداخل الشبكات، من خلال التوزيع الاستراتيجي للأنظمة التناظرية عند الحاجة، والاستثمار في العمليات التي تسمح بالتدخل اليدوي والبشري. مفتاح النجاح في الفضاء الإلكتروني على المدى الطويل لا يكمن في إيجاد طريقة لهزيمة جميع الهجمات الإلكترونية، ولكن في تعلم سُبل المواصلة، على الرغم من الاضطراب والدمار الذي تسببه.

لم تشهد الولايات المتحدة حتى الآن "هجمات 11 سبتمبر إلكترونية"، ومن غير المحتمل في المستقبل حدوث هجوم إلكتروني يتسبب في آثار مادية كارثية، ولكن ثقة الأميركيين في حكومتهم ومؤسساتهم وحتى مواطنيهم آخذة في التدهور بسرعة، مما يضعف أسس المجتمع ذاتها. تفترس الهجمات الإلكترونية نقاط الضعف هذه، وتزرع عدم الثقة في المعلومات، وتخلق الارتباك والقلق، وتزيد من الكراهية والمعلومات المضللة. ومع زيادة اعتماد الناس على العالم الرقمي وزيادة الهشاشة في الروابط بين التقنيات والأشخاص والمؤسسات، فإن هذا التهديد السيبراني للثقة يصبح أكثر وجودية. هذا هو المستقبل البائس الزاحف الذي يجب على صانعي السياسة القلق بشأنه، والذي عليهم أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتفاديه.

الروابط الملزمة


(Getty)
تُعرَّف الثقة على أنها "الإيمان الراسخ بمصداقية، أو حقيقة، أو قدرة، أو قوة شخص ما أو شيء ما"، وتؤدي دورًا مركزيًا في الاقتصادات والمجتمعات والنظام الدولي. يسمح للأفراد والمنظمات والدول بتفويض المهام أو المسؤوليات، وبالتالي توفير الوقت والموارد لإنجاز وظائف أخرى، أو التعاون بدلاً من العمل المفرد. تعد الثقة الصفة التي تسمح للعلاقات المعقدة بالوجود، وهي الصفة التي تسمح للأسواق أن تكون أكثر تعقيدًا، وهي التي تسمح للحوكمة لتتوسع لتشمل عددًا أكبر من السكان ومجموعة أوسع من القضايا، وهي التي تسمح للدول أن تتاجر وتتعاون وتتواجد ضمن علاقات تحالف مُعقَّدة. أو كما يصفها عالم السياسة مارك وارين "تُمكّننا الثقة من الإجراءات على نطاقات كبيرة في الزمان والمكان، وهو ما يسمح بوجود مجتمعات أكثر تعقيدًا وتمايزًا وتنوعًا".

وقد أدَّت هذه الثقة دورًا أساسيًا في التقدم البشري عبر جميع المستويات. تعمل المجتمعات البدائية والمعزولة والاستبدادية مع ما يسميه علماء الاجتماع "الثقة المُخصَّصة"، أي الثقة بالآخرين المعروفين فقط. تتطلب الدول الحديثة والمترابطة ما يسمى "الثقة المُعمَّمة"، والتي تمتد إلى ما وراء الدوائر المعروفة، وتسمح للجهات الفاعلة بتفويض علاقات الثقة إلى الأفراد والمنظمات والعمليات التي لا يعرفها الشخص بشكل وثيق. تصنع الثقة المخُصَّصة الولاء داخل المجموعات الصغيرة، وانتشار عدم الثقة بالآخرين، والحذر من العمليات أو المؤسسات غير المعروفة، في حين أن الثقة المُعمَّمة تتيح تفاعلات السوق المعقدة والمشاركة المجتمعية والتجارة والتعاون بين الدول.

لا يمكن أن توجد السوق الحديثة، على سبيل المثال، بدون الثقة التي تسمح بتفويض المسؤولية إلى كيان آخر. يثق الناس في أن العملات لها قيمة، وأن البنوك يمكنها تأمين الأصول وحمايتها، وأنه سيتم الوفاء بسندات الدين على شكل الشيكات أو بطاقات الائتمان أو القروض. عندما يثق الأفراد والكيانات في النظام المالي، تزداد الأجور والأرباح والعمالة. الثقة في القوانين المتعلقة بحقوق الملكية تسهل التجارة والازدهار الاقتصادي. يجعل الاقتصاد الرقمي هذه الثقة المعممة أكثر أهمية. لم يعد الناس يودعون الذهب في الخزنات البنكية. بل صارت الاقتصادات الحديثة تتكون من مجموعات معقدة من المعاملات الرقمية التي يجب على المستخدمين أن يثقوا فيها ليس فقط في أن البنوك تؤمن أصولها وتحميها، ولكن أيضًا في أن الوسيط الرقمي، وهي سلسلة من الآحاد والأصفار المرتبطة ببعضها البعض في رمز، وهو ما يترجم إلى قيمة فعلية يمكن استخدامها لشراء السلع والخدمات.

الثقة هي أحد المكونات الأساسية لرأس المال الاجتماعي، وهي المعايير المشتركة والشبكات المترابطة التي، كما حاجَّ العالِم السياسي روبرت بوتنام، تؤدي إلى مجتمعات أكثر سلامًا وازدهارًا. تسمح الثقة المعممة في قلب رأس المال الاجتماعي للناخبين بتفويض المسؤولية إلى الوكلاء والمؤسسات لتمثيل مصالحهم. يجب أن يثق الناخبون في أن المرشح سوف يعزز مصالحهم، وأنه سيتم احتساب الأصوات وفرزها بشكل صحيح، وأن المؤسسات التي تكتب وتدعم القوانين ستعمل بشكل عادل.

أخيرًا، تقع الثقة في صميم توليد الدول للقوة الوطنية، وفي سُبُل تفاعلها داخل النظام الدولي. وتسمح لرؤساء الدول المدنيين بتفويض قيادة القوات المسلحة للقادة العسكريين، وتُمكِّن هؤلاء القادة العسكريين من ممارسة سيطرة لامركزية على العمليات والتكتيكات العسكرية ذات المستوى الأدنى. من غير المرجح أن تكسب الدول التي تتسم بانعدام الثقة بين المدنيين والعسكريين حروبًا ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى كيفية تأثير الثقة على استعداد النظام لمنح السيطرة لمستويات أدنى من الوحدات العسكرية في الحرب. تشير عالمة العلوم السياسية كيتلين تالمادج، على سبيل المثال، إلى أن جهود صدام حسين لإثبات جيشه من خلال التدوير المتكرر للضباط من خلال المهام، وتقييد السفر والتدريب إلى الخارج، وحوافز تعزيز الولاء للنظام المنحرف أعاقت الجيش العراقي المجهز جيدًا. تمكّن الثقة الجيوش أيضًا من تجربة التقنيات الجديدة والتدريب عليها، مما يزيد من احتمالية ابتكار وتطوير التطورات الثورية في القوة العسكرية.

يؤدي تراكم الثقة أيضًا إلى استقرار النظام الدولي، إذ تعتمد الدول عليها في بناء اتفاقيات التجارة والحد من الأسلحة، والأهم من ذلك، الشعور بالثقة بأن الدول الأخرى لن تشن هجومًا أو غزوًا مفاجئًا، وهي بذلك تُمكِّن التعاون الدولي وتُحبِط سباقات التسلح من خلال تهيئة الظروف لتبادل المعلومات، وبالتالي التغلب على نتائج معضلة السجين غير المُثلى، حيث تختار الدول الصراع لأنها غير قادرة على مشاركة المعلومات المطلوبة للتعاون. لقد كان المثل الروسي "Doveryai, no proveryai" - "ثِق، ولكن تحقق" الموجّه لمفاوضات واتفاقيات الحد من التسلح منذ أيام الحرب الباردة.

صار العالم اليوم، باختصار، أكثر اعتمادًا على الثقة من أي وقت مضى، ويأتي هذا إلى حدٍ كبير بسبب الطريقة التي انتشرت بها المعلومات والتقنيات الرقمية عبر الاقتصادات والمجتمعات والحكومات والجيوش الحديثة، وعليهِ، فإن طبيعتها الافتراضية تضخم الدور الذي تؤدّيه الثقة في الأنشطة اليومية. يحدث هذا بعدة طرق. أولاً، يتطلب ظهور الأتمتة والتقنيات المستقلة، سواء في أنظمة المرور أو الأسواق المالية أو الرعاية الصحية أو الأسلحة العسكرية، تفويضًا للثقة حيث يثق المستخدم في أن الآلة يمكنها إنجاز المهمة بأمان وبشكل مناسب. ثانيًا، تتطلب المعلومات الرقمية أن يثق المستخدم في أن البيانات مخزنة في المكان المناسب، وأن قيمها هي ما يعتقده، وأن البيانات لن يتم التلاعب بها. بالإضافة إلى ذلك، تنشئ منصات الوسائط الاجتماعية الرقمية ديناميكيات ثقة جديدة حول الهوية والخصوصية والصلاحية. كيف تثق في منشئي المعلومات، أو أن تفاعلاتك الاجتماعية مع شخص حقيقي؟ كيف تثق في أن المعلومات التي تقدمها للآخرين ستبقى سرية؟ هذه علاقات معقدة نسبيًا مع الثقة، وكلها نتيجة لاعتماد المستخدمين على التقنيات والمعلومات الرقمية في العالم الحديث.

انتشار الشك


(Getty)
كل الثقة المطلوبة لإجراء هذه التفاعلات والتبادلات عبر الإنترنت يجعلها هدفًا كبيرًا. تولد الهجومات السيبرانية بأكثر الطرق دراماتيكية الارتياب في كيفية عمل النظام. يُمكن للاستغلال الرقمي، وهو هجوم إلكتروني مبني على الثغرات الأمنية في أنظمة الكومبيوتر، اختراق جهاز تنظيم ضربات القلب والتحكم فيه، مما يتسبب في ارتياب المريض من الجهاز إلى يستخدمه. كما يمكن أن يسمح الباب الخلفي للرقاقة الإلكترونية للفاعلين السيئين من الوصول إلى الأسلحة الذكية، مما يؤدي إلى ارتياب الناس ممن يتحكم في تلك الأسلحة. تؤدي العمليات السيبرانية إلى ارتياب الناس حيال سلامة البيانات أو الخوارزميات التي تجعل البيانات منطقية. هل سجلات الناخبين دقيقة؟ هل يُظهر نظام التحذير الاستراتيجي المدعوم بالذكاء الاصطناعي إطلاق صاروخ حقيقي، أم أنه إشارة ضوئية في رمز الكمبيوتر؟ ويمكن لاستمرار العمل في المجال الرقمي إلى ارتياب الناس حول ملكية المعلومات أو سُبل التحكم فيها: هل صورنا خاصة؟ هل الملكية الفكرية لشركتك آمنة؟ هل أسرار الحكومة حول الأسلحة النووية صارت في أيدي الخصم؟ أخيرًا، تخلق العمليات الإلكترونية حالة من عدم الثقة من خلال التلاعب بالشبكات الاجتماعية والعلاقات وتدهور رأس المال الاجتماعي. تؤدي حملات الأشخاص والروبوتات والمعلومات المضللة عبر الإنترنت إلى تعقيد ما إذا كان بإمكان الأفراد الوثوق بكل من المعلومات وبعضهم البعض. كل هذه التهديدات الإلكترونية لها آثار يمكن أن تقوض الأسس التي بنيت عليها الأسواق والمجتمعات والحكومات والنظام الدولي.

إن الاقتصاد المعتمد على التكنولوجيا الرقمية معرض بشكل خاص لتدهور الثقة. نظرًا لأن السوق الحديثة صارت أكثر ارتباطًا بالإنترنت، فقد نمت التهديدات الإلكترونية أكثر تعقيدًا، وانتشرت في كل مكان. تتراوح التقديرات السنوية للتكلفة الاقتصادية الإجمالية للهجمات الإلكترونية من مئات المليارات إلى تريليونات الدولارات. لكن ليست التكلفة المالية لهذه الهجمات وحدها هي التي تهدد الاقتصاد الحديث، حيث تقوض هذه الهجمات ثقة الناس في سلامة وأمان النظام ككل.