أمي نصحتني.. لا تحكي بالسياسة!

جفرا نيوز - بقلم رشاد ابو داود

بعد عشر سنين من عملي رئيساً لقسم الأخبار في جريدة «الأنباء» الكويتية، قالت لي أمي بصوت منخفض « يُمَه الله يرضى عليك ما تحكي في السياسة «. ابتسمت وقلت لها «بس يُمه أنا شغلي بالسياسة من عشر سنين، وبكتب بالسياسة في الجريدة «. صمتت قليلاً وقالت « برضه ما تحكي بالسياسة».

أمي لم تكن سياسية. كيف تكون وهي مثلي ضحية الساسة الدوليين الكبار، قوم بلفور والاستعمار و..الهوان ؟

كانت بريئة لكنها لم تكن ساذجة. لكنها لم تعرف كيف تعبر عن ما تريد قوله. ولأن قلب الأم دليلها، فقد عبرت عن ما كنت قد اتبعته منهجاً في حياتي منذ تكون الوعي لدي في المرحلة الثانوية، أن أعلم السياسة خاصة من «هنا لندن « ولا أعمل بها. ولاحقاً في مرحلة جامعة دمشق. فلم أنتمِ لحزب البعث رغم إيماني بكثير من معتقداته. ولم ألتحق بأي فصيل فلسطيني رغم إيماني بقدسية النضال ضد المحتل الصهيوني.

ولأنني ابن الزرقاء طفولة وصبا وزملائي الأقربون من معان و السلط واربد والكرك ويافا والرملة و اللد وحيفا، كنت عضواً غير نشط في اتحاد طلبة الأردن واتحاد طلبة فلسطين في نفس الوقت. وهكذا ظل إيماني أن نهراً لا يفرق إنما يوحد بين شعبين بل شعب واحد على ضفتين من أقصى شرق البر الى أول شاطئ البحر.

هل كنت جباناً في عدم انتمائي لحزب أو فصيل؟ أم أنني نجحت في تحقيق استقلاليتي الفكرية و الوطنية ملتزماً فقط بالعروبة مبدأً وفلسطين البوصلة الوحيدة، كانت و ستبقى القضية العربية المركزية ؟.

أعتقد.. لا. والزمن أثبت ذلك، خاصة وأنا أرى ما آلت اليه تضحيات عشرات الآلاف من الشهداء والأسرى الفلسطينيين و العرب. وما هو وضع الأحزاب والشرفاء العرب الآن. وكيف بدل البعض انتماءهم حسب مصالحهم الشخصية. وتلونوا بكل الألوان !.

هزيمة 1967 جاءت صدمة أسقطتنا كعصافير عن شجرة الحلم بتحرير فلسطين و «رمي اليهود في البحر « وبدل تحرير أرض فلسطين احتل العدو أراضي من أربع دول عربية. قالوا، انها نكسة وليست هزيمة ! وسكتنا ! وظل سبب الهزيمة مسكوتاً عنه حتى اليوم.

ثم جاءت حرب 1973 التي سميت حرب العبور وحرب اكتوبر، وقلنا «عبرنا قناة السويس وانتصرنا « لكنها كانت نصف هزيمة على يد الساسة و نصف انتصار حققه ابطال الجيش المصري بعبور خط بارليف بقيادة الفريق سعد الدين الشاذلي الذي عاقبه السادات لنشره كتاب «مذكرات حرب اكتوبر» وسجنه مبارك، وقضى 14 عاماً منفياً في الجزائر لكشفه أسرار ما عرف بثغرة الدفرسوار التي حاصر فيها العدو الجيش المصري المنتصر – اقرأ ما قاله الشاذلي في كتابه واستمع لما قاله في برنامج «شاهد على العصر « لأحمد منصور.

بعد الحرب بخمس سنوات قام السادات بـ «العبور « لكن الى الكنيست الاسرائيلي «محققا» أخطر اختراق «إسرائيلي» في الجدار العربي. توجه باتفاقيات كامب ديفيد، أول اعتراف عربي بالكيان. ما رجح تحليل البعض أن الحرب بنتائجها كانت من تخطيط الثعلب اليهودي الأميركي هنري كيسنجر. انتصار عسكري يتلوه وقف الحرب يتلوه اغتيال سياسي للانتصار يؤدي الى أول اعتراف عربي بـ «دولة اسرائيل» في التاريخ.

وتوالت «الاعترافات»، فحين تصطاد السمكة الكبيرة تصبح الصغيرة لا حول لها ولا قوة ولا..انتصار. وهكذا «خطوة خطوة «حسب خطة كيسنجر حطموا «باب الحارة « و أصبحت «اسرائيل» بالنسبة للبعض صديقة ثم شريكة ثم..شقيقة !
لا أعتقد أنني كنت جباناً ولا مخطئاً، ولا كانت أمي، حين طلبت مني أن لا أحكي بالسياسة التي لا دين و لا ضمير لها. وأن البقاء للأقوى وما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.