المحارمة يكتب : أفول نجم أمريكا وملامح نظام دولي جديد تلوح في الأفق
عداء أمريكا التاريخي لقضايا العرب وعلى رأسها القضية الفلسطينية يفسر مصلحتهم في تغيير الوضع القائم
العرب بإمكاناتهم البشرية والاقتصادية والجغرافية مؤهلين ليكونوا قطبا في النظام العالمي المنشود، بشروط!!
جفرا نيوز-عمر المحارمة
لم يعد خافيا على أحد التغيرات العميقة التي تشهدها الساحة الدولية في موازين القوى ومراكز النفوذ والاستقطاب وجنوح العالم نحو تعديل كفة الميزان لإنهاء الاستفراد الأمريكي الممتد منذ نحو ثلاثة وثلاثون عاما عندما سقط الاتحاد السوفياتي وتفردت أمريكا بقيادة العالم.
سيرة التاريخ تنبأ أنه ما من أمبراطورية استطاعت الحفاظ على مركزها ونفوذها لأكثر من قرن، ولنا في أفول نجم بريطانيا العظمى أواسط القرن الماضي، وسقوط الاتحاد السوفياتي، وقبلها أفول نجم اسبانيا والبرتغال خير دليل، فالأمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس نهضت على رفات الاسبان والبرتغال ثم تنحت بهدوء مع بزوغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد استكملت وحدتها قبل ذلك بأقل من قرن.
والتاريخ أيضا ينبأ أن الصدام بين القوى الصاعدة والقوة المهيمنة قد يكون حتميا في كثير من الحالات التاريخية، وهذا ما يفسر الدعم الامريكي الكبير لأوكرانيا في حربها ضد روسيا الطامحة لاستعادة دورها ونفوذها في العالم، وهو ما يفسر أيضا التوتر الكبير في بحر الصين التي باتت اليوم قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تهدد نفوذ الولايات المتحدة وتقلص مساحة وجودها في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا وحتى في افريقيا.
يميل غالبية المحللين والمفكرين الى التنبؤ بعالم متعدد الأقطاب ستتضح صورته في العقد المقبل، وترجح غالبية التكهنات عدم أفول النجم الأمريكي، لكنهم أيضا يؤكدون أنه لن يبقى وحيدا، فالصين وروسيا قوى تخط أقدامها بقوة وسرعة نحو مقعد قيادة العالم، مع مؤشرات تمنح الصين أفضلية كبيرة في هذا السباق تجعل توقع تجاوزها للولايات المتحدة أمرا غير مستبعد ومع صعود قوى أخرى قد لا تكون أقل مزاحمة من روسيا على الأقل من بينها الهند والبرازيل.
في غرب آسيا كما في جنوبها وشرقها بدأت أميركا فعليا تخسر نفوذها، وهذه المرة خسرته بإرادتها ودون مزاحمة من القوى الأخرى التي فقط تقدمت لتملأ الفراغ، خصوصا في منطقة الخليج العربي، فلانشغال الأمريكي الأوروبي بحرب روسيا-أوكرانيا، أعطى الصين دفعاً كبيرا لتضع موطئ قدم لها في جغرافيا الشرق الأوسط المتميزة بموقعها والغنية بالنفط والغاز، وقد تجلى الحضور الصيني في المنطقة بالإتفاق الإيراني السعودي الذي سيسهم في حلحلة مختلف ملفات الصراع في المنطقة من اليمَن إلى سوريا ولاحقاً لا بد أن ينال لبنان بعضا من بركات هذا الإتفاق.
واشنطن لم توقف محاولاتها لمراعاة المملكة العربية السعودية ومغازلة قيادتها، وكأن شيئاً لَم يَكُن، لكنها تدرك جيدا أن المزاج السعودي قد تبدَلَ كثيراَ، وما ذهاب السعودية وغالبية دول الخليج –بإستثناء قطر- نحو دعم عودة سوريا الى جامعة الدول العربية الا واحدة من أوجه المزاج الجديد في العلاقة مع الغرب الذي ضغط بكل قوة لمنع عودة سوريا الى الجامعة دون أن يحقق أية نتيجة.
كما أن حجة الحماية التي كانت تسوقها أمريكا في كل مناسبة لتبرير وجودها ونفوذها في المنطقة تكشفت عُراها بعدما سحبت واشنطن قواعدها ومنظومات الدفاع الجوي من الخليج العربي وتركت منشئاتها فريسة لصواريخ الحوثي، ما دفع القيادة السعودية للتوجه نحو توقيع إتفاق المصالحة مع إيران لوضع حَد لعدوان اليَمَن وإنهاء ثمان سنوات من الحرب العبثيه وتحييد نفسها عن كل أوجُه الصراع الأميركي في المنطقة والعالم.
المارد النائم –كما وصف نابليون بونابرت الصين قبل مئتي عام- بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي يستجمع قوته وينطلق نحو المكانة الطبيعية لإمكاناته البشرية والاقتصادية والعلمية ويدعمها بالامكانات العسكرية ويكرس حضورها بالامتداد نحو العالم، فالقوة الصاعدة للصين تشكل بلا أدنى شك تهديدا للهيمنة الأمريكية تثبته الأرقام، فالإقتصاد الأمريكي الذي استحوذ على 50% من الاقتصاد العالمي الاجمالي بعد الحرب العالمية الثانية، تناقص الى 25 بالمئة اليوم، في حين تقدمت الصين من 2 بالمئة عام 1980 إلى 18 بالمئة في الأعوام الثلاث الماضية مع توقع أن يتجاوز نظيره الأمريكي خلال السنوات ليشكل 30% من اقتصاد العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد القوة السياسية والاقتصادية الأساسية في العالم. و الساحة العالمية تتجه إلى "عالم الأقطاب المتعددة"، حيث يتم تشكل النظام الدولي من قبل مجموعة من القوى الإقليمية والدولية الكبرى التي تتنافس فيما بينها على الموارد والنفوذ، فالعالم يتجه إلى تحولات جذرية في العلاقات الدولية والتي يمكن أن تؤدي إلى تغير القوى العالمية، بشكل يوقف تمركز القوة في دولة واحدة ويسمح بنظام الأقطاب المتعددة التي ستكون الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند واليابان والبرازيل بلا شك جزءا منه مع وجود مراكز قوة لن تقل أهمية عنها اذا ما تمكنت من مواجهة تحدياتها وحققت مصالحها الخاصة ومنها العربية السعودية ودولة جنوب افريقيا.
الحقيقة الواضحة اليوم أن الغرب وعلى رأسه أمريكا لم يعد القوة الوحيدة في النظام الدولي الراهن، فالهيمنة الغربية التي سادت طوال القرنين الماضيين شهدت تراجعًا مطردًا، وتبلورت ملامح ذلك بوضوح في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، خصوصا بعد حرب روسيا-أوكرانيا فثمة مواجهات متزايدة على قمة النظام الدولي لا تقتصر على الأبعاد السياسية والعسكرية، لكنها باتت تنطوي أيضًا على جوانب اقتصادية وحضارية خصوصا في عصر الاقتصاد الرقمي والتنكولوجي.
والعالم يتجه مع ما بقي من سنوات العقد الحالي وسني العقد القادم الى بلورة نظام دولي جديد، لن تخرج أمريكا من الحضور على رأسه لكنها بالتأكيد لن تكون وحيدة وستتقلص مساحة نفوذها وتأثيرها بشكل كبير، هذا إذا لم تتفجر أزماتها الداخليه التي تشكل التهديد الوجودي الأكبر على حضارة العام سام التي تعاني من "وهن" اقتصادي وتراجع معدلات النمو، واستفحال ظاهرة العنصرية ضد الاقليات وذوي الأصول الأفريقية، وتفاقم المعضلات الاقتصادية وانتشار مظاهر الفقر والبطالة والتشرد وتعاطي المخدرات وتفكك الأسر والتباين المتسارع في مستوى معيشة المواطنين.
عربيا تبدو المصلحة واضحة في انتهاء العصر الأمريكي أحادي القطب وبروز نظام دولي متعدد الأقطاب، فأمريكا عمليا كانت عدوا لكل القضايا العربية تقريبا وخصوصا القضية الفلسطينية، وشكل انحيازها الاعمى للكيان الصهيوني واحدة من دعائم وقوة هذا الكيان، ولا ننسى بالطبع ما فعلته أمريكا في العراق وليبيا والسودان وسوريا عبر العقود الماضية.
والعرب بما لديهم من ثروات بشرية واقتصادية وموقع جغرافي يمكنهم أن يكونوا قطبا مؤثرا في النظام العالمي المنشود، إن تمكنوا من تجاوز النفوذ الأمريكي داخل دولهم ونجحوا في تنفيذ إصلاحات واسعة، وعززوا العمل المشترك بصورة ترفع مستوى التنسيق والتكامل بصورة حقيقية، فمن المؤكد أنه لا يمكن لأي دولة عربية أن تضع قدمها بين الكبار بصورة منفردة.