حرب تفاحات الحب

جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

 يحلو لي في لهيب تموز أن أتذكر باقة من حروبي الكثيرة المثيرة، وأتلذّذ بغنائمها ومعاركها الشهية. أتذكر الآن حربنا الطفولية الساخنة المجنونة في آذار وبعد أن يهطل الجنرال الأبيض فارشا هيمنته على الشوارع وأسطح البيوت؛ نهب محمّصين بالصخب نتراشق قنابلنا المرصوصة بارتعاش ومرح. أجمل القنابل تلك التي كنا نهمسُ فيها بعضاً من قبلات حرّى قُبيل تصويبها إلى جبهة البنات.

حرب أخرى لم أخرج من خندقها مذ كنت في السادسة من عمري، وأخوضها حتى الساعة ببركاني الصامت بعد نفث روحي في حجارتها البيضاء والسوداء. وطالما تمنيت لو أن حرب الشطرنج النظيفة هذه تدحرُ حروبنا القذرة وتشتّت شملها الخبيث. وفي السكن الجامعي تعودنا أن نشعل حرب الوسائد بحرية أكثر مما كنا نستشعره في بيوت أمهاتنا الجليلات. ذخائرنا لم تكن محشوة ريشَ دجاج مُرفَّه، مثلما تقدمها أفلام الأغاني القصيرة. كانت متخمة بأحلام نصف مبتورة، ربع مهشمة، ومهمشة بكامل أفراخها وأفراحها، نتقاتل بها حدّ الانهاك؛ لننام باسمين كجنود قتلى على ضفاف الحكايات.

قبل أيام تمنيت لو أنغمس بكامل شغفي في حرب تفاحات الحب التي اندلعت في «بونول» الإسبانية بنسختها 75. فهذه البلدة الوادعة تقيم مهرجان «La Tomatina» السنوي ليلتقي فيه المقاتلون المتحمسون من كل الأجناس ليشنوا نزالا طيباً لمدة ساعة يفنون فيه ذخيرة تقدّر ب130 طنًا من فاكهة البندورة الطازجة الناضجة، ويخرجون وكأنهم عاشوا في عبوة «كاتشب».
طالما أحببت هذه الحرب الحمراء الطيبة، وقد سرني عودتها الميمونة بعد هدنة الكورونا. أحبها لأنها نظيفة حقاً وبريئة، رغم دمويتها الزائفة التي يغسلها الماء وتشربها الأرض. أحبها لأنها احتجاج مبطن، كالشطرنج، على كل أشكال الحروب التي تنتاب كوكبنا.

كثيرون في عالمنا يسمون البندورة تفاحة الحب؛ ربما لأنها وبعد سفرها من العالم الجديد في القارة الأمريكية المكتشفة قبل خمسة قرون كانت تمثل قيمة كبرى جميلة زاهية لدرجة أن تهدى إلى المحبوبات المتمنعات الجانحات إلى الخصام. هي تفاحة عامرة بالنداوة ودهشة المذاق الشاهق، ولا أعرف لِمَ جار عليها الزمن وأدرجها في الخضار.

المصريون يسمونها مجنونة. ليس لأنها تسر مجانين الحب الباحثين عن بعض الحمرة حتى في قشور البطيخ وظلال الدراق، بل لأن لا أحد يستطيع أن يُعقلن أسعارها حين ترتفع ارتفاعا مبالغا فيه، أو حتى حين تنحدر إلى بضعة قروش.

بعيدا عن بوحي هذا، فلا رجاء يلوح في أفق الإنسانية بأن يسقط حرف الراء من حربها، فالعالم مزنر بالحروب ومجلل بها. ولا رجاء أيضا في أن يرضخ عالمنا للعبة الشطرنج ومنطقها في نزاعاته، لتكون بديلا استراتيجياً عن الصواريخ والدبابات وغازات السارين والخردل. ولن يقبل عالمنا الغبي أن تسوده حروب التفاحات الحمراء، ووسائد الريش خفيفة النغمات. عالمنا يريدها دوما حربا بالموت الناضج لا أكثر ولا أقل.