القبول بظلال الحياة والاستغناء عن قاماتها
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
يتذمّر بعضُ المسافرين من أن الطائرات غير مغطاة بخدمة الإنترنت في كثير من حالاتها. ولكن ومع تلك الفرصة، أو البحبوحة الانفصالية الثمينة، ستراهم وبحكم العادة يغرسون رؤوسهم في شاشات هواتفهم مندغمين حدَّ التماهي بألعاب توفرها تلك الهواتف حال انقطاعها عن نبض الشبكات.
قبل سنوات قليلة جداً، كنت ترى بعضاً من المسافرين يشرعون في قراءة كتاب اصطحبوه خصيصاً لهذه الفترة الانقطاعية. أو كنت تجد بعضاً من المجلات أو الصحف في جيوب مقاعد الطائرات، واليوم لن تجد إلا ورقة تعليمات السلامة العامة. وكنت تشعر بحرص ولهفة كثير من المسافرين، على أن تكون مقاعدهم جوار النوافذ؛ ليتمتعوا بالأرض حين تغدو غاباتها كأحواض نعناع في حاكورة واسعة، والغيوم المكتنزة أسراب طيور هائمة. حتى تلك الوشوشات الخافتة التي كانت تتسلّل إليك من بين الرؤوس المتقاربة لم تعد موجودة. فالكل منشغل بهاتفه حتى سابع روح وأبعد.
قبل عقود تبنأ عالم الاجتماع الاتصالي «مارشال ماكلوهان» أن تغدو وسائل الاتصال الحديثة امتداداً طبيعياً لحواسنا، بمعنى أن تصبح الإذاعة مثلاً مكملة لحاسة سمعنا، والتلفاز للبصر. ولكن لم يدر في خلد ذلك الرجل أو غيره، أن تهيمن هذه الوسائل كل هذه الهيمة لتغدو هي حواسنا، بل شغلنا الشاغل الذي لا نكاد نتخيل أنفسنا بدونه للحظات قصرت أم طالت.
ما زال يعلق في ذهني مشهد من فيلم حديث لسيدة ستينية تصب كامل روحها في حفل موسيقي، فيما كل من حولها يشهرون هواتفهم يلتقطون الصور أو يبثون الحدث على منصات المواقع. وحين اقتربت الصورة من وجه تلك السيدة شعرت بذلك التمتع الحقيقي في سرور عينيها. وقلت لا بدَّ أنها تعيش لحظتها بحق حتى النخاع. فيما يبدد الآخرون لحظاتهم الثمينة ببثها أو الانشغال بتصويرها، وكأن هدفنا من الحياة أن نريها لغيرنا على الطرف الآخر من الشبكة.
حتى في رحلات الاستجمام السياحي إلى مناطق غاية في الروعة والجمال؛ سترى الكثيرين يتخلون طوعا عن عيش اللحظة بالتأمل أو التمتع؛ لصالح الانشغال بتصويرها وبثها والرد على المعجبين. وكأننا صرنا نرضى بظلال الحياة، مستغنين عن قامات الحياة ذاتها. الصورة قد تكون للحظات عابرة؛ لتذكرنا أننا كنا هنا.
مواقع التواصل لم تعد مرآة لحياتنا، كما هو مفترض، بل صارت كل حياتنا. وهنا المرض. لقد استغرقنا في الظلال، ونسينا أن نعيش أصل الحياة.