الانتقام لا يبني وطنًا

جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

لم تُعلن الأمم المتحدة عن حصادات أو مآلات شعارها في العام الماضي، إذ طلبت من كلّ فرد على وجه الأرض العمل 67 دقيقة في مساعدة الآخرين في يوم «نيلسون مانديلا». آنذاك لم أعرف كفرد على كوكبنا الأزرق أين أعمل، ومتى ولماذا وكيف؟، ما عرفته أن ذلك الرقم جاء تكريماً واستذكارا للعمر الذي قضاه الراحل العظيم في الخدمة العامة لبلاده وللقضايا الإنسانية.

تعتمد الأمم المتحدة اليوم 18 تموز يوما عالمياً للرجل وعيدا نسترجع فيه مآثره وسجاياه النبيلة. وهذا اليوم هو ذكرى ميلاده. ويعجبني جداً هذا الاختيار الدقيق. فالعظماء يُحتفى بذكرى ميلادهم لا بذكرى وفاتهم أو غيابهم أو قتلهم. ومانديلا من الأحرار الذين غدوا أيقونة لقيم ومبادئ وحقوق الشعوب في رحلة خلاصها ونهوضها وحريتها. انتصر على نظام الفصل العنصري القميء القمعي بعدما أن كان سجين رأي لمدة نافت عن ربع قرن. هو صانع سلام تنعم به بلاده الآن بكل أطياف ألوانها، وأول رئيس منتخب ديمقراطياً بعد تحرّرها من قبضة الظلم الأبيض.

يجيء شعار الاحتفال بيوم «مانديلا» لهذا العام في ذات المنحى، وربما متأثرا بفجائع التغيرات المناخية، وأشباح الجوع والحروب والكروب التي تزنر كوكبنا وتخنقه: « افعل ما تستطيع، بما لديك، أينما كنت». وأيضا أراني أسأل: ماذا أفعل؟ ومتى وأين ولماذا وكيف؟. أم أن الأمر لا يخرج عن الشعاراتية التي مقتها الراحل، ولم يدرجها في حسبان حياته.

مع أهمية العمل والفعل، إلا أن عالمنا اليوم أحوج إلى التسامح منه إلى العمل. لا معنى للعمل أو الفعل أو الإنتاج في غياب هذه الثيمة الإنسانية التي أراها المزية الأعلى سموا في مسيرة مانديلا ومدارج عظمته. وقد كان على الأمم المتحدة أن تتبنى هذا الطرح، وتظل تلحّ عليه سنة إثر سنة، بدل أن تتبنى شعارا فضفاضا يتكرّر بصيغ جديدة كل عام، دون أن يغادر مربع التنظير.
قدّم لنا الرجل درسا كبيرا في التسامح حينما سمح وصفح عن جلاديه، بعد أن صار قادراً على الانتقام منهم، لكنه رأى أن ما من قوة أقوى من التسامح. ولهذا لم يثأر، ولم يبادل الدم بالدم، ولا الألم بالألم، وكأنه أيقن أن الانتقام لا يبنى وطنا أبداً. وهنا سنتذكر البلدان التي دأبت على الانتقام وكيف غابت عنها شموس الحياة وظلت رازحة طي الظلمات. نتذكر ايضا من لم يمتلكوا للحظة واحدة شيئا من هذا الذي يسمى تسامحا حتى مع أطفال كتبوا شيئا على جدران مدرستهم، فأشعلها حربا ما زالت جمارتها تتوقد، ولو من تحت رماد سميك.

كان يمكن للعظيم مانديلا أن يظل رئيساً للأبد. أن يظل 100 مرة وشعبه يمنحه صوت التمديد والتجديد، وكان بوسعه أن يطهّر البلاد من سجانيه لكنه آمن أن التسامح وحده من يكتب التاريخ للشعب، وأما الانتقام والطغيان فمصيرهما معروف ومبثوث في كل جهات الأرض.