الإصفرار وطقوس تموز

جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

في تموز لا ترتفع معدلات الجرائم والسرقات والمشاجرات والمشاحنات والطلاقات فقط، ولا تتحمحم بالندوب والكروب والخصومات. بل تموز كان منذ البدء شهراً موغلاً في العنف حدّ الذرة وقنابلها، ومتخماً بالثورات والانقلابات، وحركات التصحيح، وشرارات الحروب.

ربما يحلو للبعض ألا يدين البشر كل الإدانة لعنفهم خلال هذا الشهر، بل يدين الحرّ الجهنمي الذي يتمتع به ويجعلهم نزقين ومنفعلين كقطرات ماء سقطت في زيت المقلى. الثورة الفرنسية اشتعلت في تموز 1789 والمصرية 1952 والعراقية 1958، الحرب العالمية الأولى 1914، وأمريكا فجرّت قنبلتها الذرية (التجريبية)1941، فاتحة باباً لجحيم لا ترحم.

حين كنا نمدّ فراشنا فوق أسطح البيوت هربا من فرن البيوت، نفتش عن درب التبانة، كي تعبره أحلامنا الوادعة، ونقبض على الدب الأكبر، وننتظر طلة قمر تموز خجلى. وعلى ذكر القمر، فهذا الشهر أسقط القمر من عيون الناس، فبعد أن كان نبراساً للحب وإلهاماً للشعراء، غدا صحراء قاحلة لا حياة فيه، بعدما دبّت عليه أقدام الإنسان في تموز 1969 حطّ (أرمسترونج). فهل سنتشبث بأسطورة قمر كنا نشبه به وجه الحبيبة الناعسة؟

وذات جنون تموزي تمنيتُ لو نملك نهراً من الشنينة الباردة يشق مدينتنا، ويلطف أجواءنا، ويخفف ثقل غيمة التلوث التي تخنق سماءنا وتكبت أنفاسنا بسبب السيارات وتناسلها الرهيب. هذا النهر الشنيني سيكسر أسنان كل موجات الحر العنيدة، ويلوي عنقها، ويعيدها إلى صحرائها فارعة دارعة.

حتى أمنا الأرض لم تسلم من عطايا هذا الشهر، فالبحّار (مجلان) قام برحلته الشهيرة عام 1519 ليثبت بذلك كرويتها ويبرهن أنها ليست مركزاً للكون. نعم. الأرض كروية وما زالت تتلقى الركلات والدفشات والويلات.
وفي تموز 1099 سقطت القدس ثم استردها صلاح الدين بعد 88 عاماً من الصلبيين. وكنّا نقول في المثل (فلان أكذب من سحاب تموز)، وهذا ما يجعلني أتلفت سماءً وأرضاً؛ عسى بارقة أمل تُبذر في رمادنا الساخن وما زلنا نقول القول بطرق أخرى.

تموز هو سيد راع في المعتقدات البابلية وعموم بلاد الرافدين، تقدم لخطبة (عشتار) سيدة الخصب والحب وقبلته. لكنه يقتل غيرة وحسدا من أسياد آخرين، فتتبعه حبيبته عشتار إلى العالم السفلي لتسترده، وخلال هذه الفترة تظهر على الأرض مظاهر الموت والاصفرار وهذا ما كان يجعل عباد عشتار وعشاقها يؤدون طقوس العويل والبكاء حتى تعود إليهم مظاهر الخصب والحياة مطلع الربيع القادم.