ناثرات الرشاقة على صفحات الغروب

جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

يعود طائر السنونو من هجرته البعيدة بكامل نشاطه وعنفوانه؛ ليملأنا بهجة تبقينا على قيد المحبة لسماء تزداد جمالاً حين يزركشها بطيرانه الرشيق المدهش. في كوانين الباردة يرحل السنونو إلى دفء بعيد في هذا العالم لكنه لا ينسى وطنه، فيعود إليه مطلع كل صيف مسحوباً ببوصلة الحنين والشوق.

أحياناً يعود إلى ذات العش الطيني، الذي بناه في العام السابق بزوايا البيوت، أو فوق الشبابيك، أو في شق طوبة مكسورة في جدار. أهلنا كانوا يتفاءلون به وبعشه وباقتحامه بيوتنا، فهذه إشارة رخاء وخير ومحبة وسلام، وكانوا يقولون عن هذه الطيور، التي تشاركنا بيتنا، إنها مستجيرةٌ، أي تطلب الحماية والأمن، وعلينا أن نجيرها.

السنونو طائر أسود ذو بطن رمادية، بحجم العصفور الدوري، له طوق بني، طيرانه سريع ودقيق، وقد قرأت أنه قد ينفذ وهو بكل سرعته من حلقة قطرها ثلاث سنتمرات، وهو بخلاف غالبية العصافير يبني أعشاشها من التراب الصلصالي، الذي يتحوّل في فمها إلى طينٍ، بعد مزجه وعلكه بريقها، وثم تنضِّدهُ بطريقة هندسية بديعة على هيئة مخروط كروي رأسه للأسفل، ويكون متيناً كالصخر، وهذا ما يجعلها صالحا لعدة سنوات، يرثه الأبناء من الآباء!.

أقضي في كل نهاية إسبوع ساعة في مراقبة السنونو شقيق طفولتنا، وهو يزين عتبات الغروب!، بحركات بهلوانية تجعلك تسبّح الله، وإذا راقبته جيداً ستراه يطير منخفضاً من الأرض، وكأنه يقبِّل وجهها، وأحياناً يسقط ريشة من فمه، وهو في علو شاهق، ثم يتركها تسقط متمايلة في الهواء ليلتقطها بمنقاره براشقة قبل أن تصل سطح الأرض.

كل الطيور كانت حلاً لشقاواتنا الطفولية، فكنا نغزو أعشاشها، ونقطف فراخها الآيلة للنضوج، إلا السنونو فلم نكُ نقرب له عشاً، ولا نرميه بحجر، ونتحسّر عليه حسرة أمّ ثكلى إذا ما وقع في فخنا، فكيف لا نخاف عليه؟ وهو ربيبُ خيالاتنا الأولى إذ المعلمةُ تقرأ علينا سورة الفيل بصوتها المحشرج؛ فنتعاطف مع طير الأبابيل، التي تجهدُ منقارها في رمي الكفّار بحجارةً من سجيل. فأحببنا السنونو ورسمنا له في قلوبنا تاجاً من الهيبة.

هذا العالم، ورغم أنه يبدو في كثير من الأوقاتً معدنياً بارداً لا بهجة ترتجى منه، إلا أني ما زلت أرى أن الأشياء الصغيرة عسل السعادة ونسغها. جرّب أن ترقب سنونوات ينثرن رشاقتهن البهية على صفحة الغروب.