يوم سكنَّا الصالحية
جفرا نيوز - بقلم رشاد ابو داود
لم نترك حياً في دمشق الا سكناه. ومن لم نسكنه كنا نزور زملاء لنا يسكنونه. ليس من باب اعرف شامك بل من ضرورات التوفير. فالدراسة كانت بنظام المواد وليس الساعات. لكل سنة دراسية عدد من المواد، ان نجحت مثلاً في خمس مواد من سبع يحق لك أن تنجح وتحمل المادتين اللتين رسبت فيهما الى السنة التي تليها لتضاف الى موادها.
تنتهي السنة لتبدأ العطلة الصيفية في حزيران ولمدة ثلاثة أشهر. كانت اجازة لنا من الدراسة ولأهلنا من المصروف. نبلغ صاحب البيت أننا سنغادر، يغضب أحياناً لأنه سيخسر ايجار ثلاثة اشهر. نحمل شنطنا بما امتلأت من ملابس وفي كرتونة حلويات مجففة وعلبة توفي ناشد، التي بقيت أحبها وسألت عنها قبل مدة أثناء زيارتي لمدينة الرمثا توأم درعا، وهدايا رمزية للأهل من سوق الحميدية.
وقتها لم يكن ثمة «أوبر» أو «كريم». كنا نحمل متاعنا ونقف في الشارع ننتظر تاكسي. « لوين الشبااااب ؟»، يسألنا السائق. اما أن نقول له : الى الحجاز، أي محطة القطار. أو الى «المرجة» حيث مكاتب السفريات التي كانت تقوم أيضاً بالتنسيق مع نظيراتها في عمان والزرقاء بعمل البريد والصراف.
كان الأهل يرسلون لنا الـ 13 دينارا بداية كل شهر من خلال تلك المكاتب. وأحياناً الرسائل، فلا واتس أب ولا إيميل أيامها. طابع بعشرة قروش يلصق ببله على طرف اللسان على مغلف أبيض حوله زنار بمستطيلات صغيرة باللونين الأحمر والأزرق يتذكره أبناء ذاك الزمن.
كانت الرسائل تبدأ بـ « بسم الله الرحمن الرحيم « ثم « الى حضرة...المحترم « أو « الأخ العزيز والذهب الابريز... « ثم « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته « و» نرجو أن تكونوا بخير، أما اذا سألتم عنا فنحن بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدتكم والتمتع بأنواركم البهية «. « أما بعد....» وتختتم الرسالة بـ « الداعي لكم بطول العمر....». وان كان ثمة صورة فيكون مكتوباً على خلفها « للذكرى، فان الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان « أو « ان غاب جسمي فهذا رسمي « !
تشعر الآن وأنت تقرأ تلك العبارات وكأنها متوارثة من العصر العثماني أو حتى الأموي والعباسي. السجع الممل والقافية المقيتة والكلام المكرر الذي يدفن العاطفة تحت تراب التقليد الأعمى والضرورات غير الضرورية.
عندما نعود من الاجازة نبحث عن سكن جديد. وهذه المرة بدون الدلال ابو تيسير. فقد أصبحنا نعرف من زملائنا أين يوجد سكن مناسب. في السنة الثانية تركنا الشعلان بدفئه وبمدرسة الفرنسيسكان التي كانت على مقربة من البيت الأول وهي مدرسة ثانوية للبنات.
بزيهن الكاكي الموحد وجمالهن الذي كنا نقرأ عنه في قصائد نزار قباني. وغالباً ما كنا نقف مقابل المدرسة عند انتهاء الدوام لنتمتع بغزالات الثانوية ذوات الشعر الحريري واللهجة الشامية بصوت مبلول بماء الفيجة.
لم نجرؤ على الابتعاد عن الجامعة فسكنا في منطقة الصالحية المرتبطة بأذهاننا من الطفولة بالأغنية التي كانت النساء يغنينها في الأعراس «عالصالحية يا صالحة، يا جبنة طرية يا مالحة «. وهي لا تبعد كثيراً عن الشعلان وحافظنا على الغداء عند مطعم ابو عيسى خاصة في العشر الأواخر من الشهر واقتراب انتهاء المصروف بسبب جاكيت أو قميص سولت لك نفسك أن تشتريه من شارع الصالحية الذي كان فيه أرقى المحلات والسينمات و..الجميلات. ففي سن المراهقة تستهويك الصالحية بتنوع المارة ورائحة العطر وفيلم «أبي فوق الشجرة « في سينما الزهراء القريبة الذي شاهدناه أكثر من مرة للترويح ولعد قبلات عبد الحليم وناديا لطفي، أو الى سينما الكندي التي كانت تعرض أفلاماً عالمية ثقافية واجتماعية تحتاج الى صمت عميق وتفكير أعمق. فينتهي الفيلم فجأة من دون أن تفهم منه شيئاً !
وتلك حكاية أخرى.