سؤال الديموقراطية «المعرفية»


 
 
جفرا نيوز   :  حسني عايش
بالإضافة إلى مرونتها العظيمة، يقول توفلر، فإن للمعرفة خصائص أخرى تجعلها مختلفة بصورة جذرية عن مصادر القوة الأدنى في عالم الغد. إن القوة المادية أو قوة العنف، ولأسباب عملية، محدودة. أي أنه قد لا يتوفر منها ما يكفي لإلحاق الهزيمة بالخصم أو للدفاع عن قضية ما. والشيء نفسه ينطبق على الثروة أو المال.
فالنقود لا تستطيع شراء كل شيء، ففي لحظة ما يمكن أن تفرغ أسمن محفظة من النقود، ولكن مثل هذه الحدود أو القيود لا تنطبق على المعرفة، فنحن قادرون على توليد المزيد من المعرفة باستمراره وكما قال الفيلسوف الاغريقي زينون فإن المسافر الذي يقطع كل يوم نصف المسافة ليصل الى هدفه لا يصل اليه أبداً، لأنه يجب عليه قطع نصف اخرى من المسافة الباقية دائماً. وبالمعنى نفسه فإننا لن نصل إلى المعرفة القصوى عن أي شيء. غير أننا نستطيع في كل مرة قطع خطوة نحو هذا الهدف، وبشكل يتكون لدينا معه فهم تقريبي لأي ظاهرة. إن المعرفة، من حيث ?لمبدأ على الأقل، قابلة للنمو والاتساع إلى مالا نهاية.
كما تختلف قوة المعرفة، طبيعة وجوهراً، عن قوة العضلة وقوة المال، وكقاعدة عامة إذا استخدمت أنا بندقية فإنك لا تستطيع أن تستخدمها في الوقت نفسه، وعندما أستخدم ديناراً فإنك لا تستطيع استخدامه في الوقت نفسه غير أن كلاً منا، وبالمقابل، يستطيع استخدام المعرفة نفسها من أجل الآخر أو ضده وفي الوقت نفسه. وأثناء تلك العملية يمكن إنتاج المزيد من المعرفة، وبعكس الرصاصات والموازنات فإن المعرفة لا تنفذ بالاستعمال ولا تبلى. وتدل هذه الخاصية على أن قواعد لعبة قوة المعرفة مختلفة تماماً عن القواعد التي يعتمد عليها أولئك الذين?يستخدمون العنف أو المال لتحقيق مآربهم.
وفوق ذلك توجد فروق أخرى حاسمة تفصل بين العنف والمال من جهة، والمعرفة من جهة اخرى، فبداهة إن كلاً من العنف والمال ملك للقوي وللغني، ولكن كلاً من الضعيف والفقير يستطيع امتلاك المعرفة والإمساك بها واستخدامها. وبعبارة أخرى لا يملك أي بلد أو شركة أو صناعة ميزة معرفية/ نظرية طبيعية، لأن المعرفة مكتسبة ومتاحة للجميع ولا تعرف الحدود. وتلك خاصية ثورية لا تتمتع بها القوتان الأخريان.
وبموجب ذلك فإن المعرفة هي أكثر مصادر القوة ديموقراطية مما يجعل منها تهديداً مستمراً للأقوياء، حتى وإن استخدموها لزيادة قوتهم. ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يريد كل متمتع بالقوة من رب الأسرة إلى رئيس الشركة ورئيس الدولة التحكم بكميتها ونوعيتها وبتوزيعها ضمن نطاقه.
يؤدي المفهوم الثلاثي للقوة الى مفارقة ملفتة للنظر، ففي القرون الثلاثة الماضية كان الأساس السياسي للصراع بين الدول الصناعية يدور حول توزيع الثروة: من يأخذ ماذا. كما كانت المصطلحات تتمحور حول اليسار واليمين، والرأسمالي والاشتراكي، إلا أننا مع ذلك، وبالرغم من التوزيع السيئ للثروة نظرياً وعالمياً. نكتشف أن توزيع الثروة مقارنة بالقوتين الأخريين: العنف والمعرفة، هي الأقل سوءاً في التوزيع وأنه مهما كانت الهوة واسعة بين الغني والفقير فإن الهوة أوسع بين القوي والضعيف، وبين المسلح وغير المسلح، وبين المتعلم والجاهل.
إن الصراع القادم لامتلاك القوة سيتحول بصورة متزايدة إلى صراع حول توزيع المعرفة أو الوصول إليها بالرغم من كل أشكال اللا مساواة الموجودة في الدخل والثروة. لعل ذلك يعني، مالم نفهم كيف ولمن تتدفق المعرفة، إننا قد لا نستطيع حماية أنفسنا من سوء استخدام القوة أو من تكوين مجتمع ذي ديموقراطية افضل من تلك التي وفرتها لنا تكنولوجيا الموجة الثانية. (يتبع: البقاء في عالم متغير