قرود جامعة الخرطوم... كوميديا برية في أبهاء العلم

جفرا نيوز - حكايات وطرائف ومزاج لطيف ظلت تضفيه قرود جامعة الخرطوم التي باتت على مدى أكثر من قرن جزءاً من ملامح الحياة اليومية داخل الجامعة، حيث تنتشر وتعيش على أشجار الجامعة المخضرة الظليلة، مئات من النسانيس (مفردها نسناس وهو نوع من القرود له ذيل طويل ويتميز بصغر حجمه) أصبحت محلاً للتسلية اليومية، وبعضاً من نسيج الحياة داخل الجامعة وأحد المشاهد المميزة في فنائها الممتد على مساحة كبيرة من شارع النيل بالعاصمة.

أجواء مرحة

منذ 120 عاماً مع بداية تأسيس الجامعة في 1902 ظل وجود هذه القرود إحدى العلامات التي تميزها، ولطالما أضفت على أجواء باحاتها وممراتها واستراحاتها الداخلية بهجة ولطفاً فيما تتقافز بين الأغصان بشكل استعراضي وخفة ورشاقة تتوسل بها وببعض التقرب والمداعبات للحصول على مكافأة عبارة عن قطعة موز أو بقايا كيك أو شوكولاتة.

بمنتهى الاطمئنان تتجول القرود وسط الطلاب، تتطلع إلى من يتعطف عليها بمكرمة صغيرة، ولا تمانع الجلوس على المائدة ذاتها أمام الناس. قفزاتها البهلوانية فوق أغصان الأشجار الوارفة، أو تجوالها بحركتها الرشيقة في المكان، أو حتى خطفها سندويشات الطلبة أو الزوار بطريقة مباغتة ومن دون سابق إنذار، باتت مدخلاً لسرد حكايات لا تنتهي لجميع الذين تعاقبوا على المكان.

هدى الأمين، إحدى خريجات جامعة الخرطوم في التسعينيات، تقول إنهم كانوا كطلاب في ذلك الزمان يتعاملون مع القرود بود واستلطاف، لدرجة أن بعضها يكاد يتعرف على مطعميه كأصدقاء، ونشأت وتوطدت بينهم علاقة ودودة وتعايش مقبول على نحو جعل القرود مطمئنة في سكنها وتناسلها، مما أدى إلى تكاثرها بشكل ملحوظ في تلك الفترة، إذ كثيراً ما ترى الأم تتجول وخلفها صغارها بكل أريحية وطمأنينة، بينما يلاطفها الموجودون من دون أن يتسببوا لها في أي إزعاج.

حكايات وطرائف

تحكي الأمين "لم نكن نتصور الدخول إلى مبنى الجامعة من دون أن تقابلنا تلك القرود اللطيفة بمجموعات كبيرة أحياناً، بخاصة في الفترة الصباحية عند مبنى كلية العلوم، حيث درجت على الدخول عبر النوافذ لتأكل ما تجده من بقايا طعام، وربما تتسلل إلى المكاتب الإدارية وتعبث بمحتوياتها وتلتهم ما تجده داخل الثلاجات.

 وتستطرد "الطريف أن بعض تلك القرود يتخذ مواقعه في المقاعد الخلفية لقاعات المحاضرات من دون أن تحدث أية جلبة وكأنها تصغي إلى المحاضر، ولا يسع بعض الطلبة إلا أن يتهكم ضاحكاً مخاطباً إياها ’المحاضرة انتهت يا زميل‘".

يقول محمد بشير علي إن وجود القرود لا يقتصر على جامعة الخرطوم فقط، فهي موجودة بدرجات أقل على امتداد المؤسسات الحكومية التي تجاور شريط النيل الأزرق (شارع النيل)، بخاصة التي تنمو فيها بعض أشجار المانجو المعمرة المزروعة منذ فترة الحكم الإنجليزي، وتظهر كثيراً في وزارات الخارجية والحكم الاتحادي وغيرها مع موسم إثمار تلك الأشجار، ثم تعود مرة أخرى للجامعة بعد انتهاء الموسم.

من الطرائف التي يحكيها بشير أنه خلال فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري وخلال إفطار رمضاني بوزارة الخارجية، داهمت القرود المائدة بينما انصرف الضيوف إلى أداء صلاة المغرب بعد الإفطار مباشرة، مشيراً إلى أنه على رغم غضب نميري لكنه لم يوجه بإبادتها كما أشيع، بل داعب الحضور متهكماً بأنه كان عليهم الاستعانة بقوات الحياة البرية لحماية الإفطار.

وتحكي نسرين يوسف "أحياناً عندما يشتد عليها الجوع تلجأ إلى خطف المأكولات من أمام الموجودين وتعتلي بها الأشجار في لمح البصر، وعلى رغم ذلك لا يستهجن الناس هذا السلوك، بل يقابلونه بالضحك والسخرية من المنكوبين بخسارة قطعة كيك أو ساندويش أو حتى شنطة يد صغيرة بعثرت محتوياتها.

 من أين جاءت؟

تضم جامعة الخرطوم أربعة مجمعات أكبرها مجمع الوسط القريب من وسط الخرطوم، حيث إدارة الجامعة وكليات الآداب والقانون والعلوم والدراسات الاقتصادية والاجتماعية والهندسة والعمارة والعلوم الرياضية والعلوم الإدارية والدراسات العليا وكلية الدراسات التقنية والتنموية، ويشمل المجمع كذلك عدداً من المعاهد والمراكز والقاعات إلى جانب دار جامعة الخرطوم للنشر ومتحف التاريخ الطبيعي.

تتعدد وتتفاوت الروايات حول أصل تلك القرود ومن أين جاءت ومتى استوطنت أشجار الجامعة واتخذت كل أرجاء مجمعها الأوسط موئلاً طوال كل تلك الأعوام؟

بعض الروايات تقول إن تلك القرود موجودة منذ فترة الحكم الإنجليزي، بينما يذهب آخرون إلى أنها كانت هربت من حديقة الحيوانات أثناء ترحيل الحديقة ونقلها إلى مناطق أخرى داخل الخرطوم أو في الولايات، لكن القرود برشاقتها المعهودة تمكنت من الهروب أثناء العملية واندست بين أشجار اللبخ الضخمة المنتشرة على طول شارع النيل، ثم استقر بها المقام أخيراً داخل أسوار جامعة الخرطوم.

يعتقد أصحاب هذه الرواية، ومنهم العم يوسف محمود، أحد قدامى العاملين في حديقة الحيوان السابقة، بأن القرود ما لبثت أن وجدت المكان مناسباً، واكتسبت بسرعة مهارة التعايش وسط هذه المنطقة، وسرعان ما تحولت إلى صديقة ومؤنسة للعاملين والطلاب حتى طاب لها المقام، لكن الثابت أن تلك القرود استقرت في مكان وجدت فيه الأمان والطعام والمؤانسة أيضاً.

نصائح وتحذيرات

لكن الطبيبة البيطرية شروق عبدالقادر تنصح الذين يتعاملون مع القرود بحذر من انتقال أمراض عدة عبرها مثل السعار والإيدز وفيروس التهاب الكبد الوبائي، عن طريق الخدش أو العض، فعلى رغم أنها تبدو لطيفة ومتفاعلة مع البشر، لكنها قد تهاجم وتعض حال شعورها بالخطر كمحاولة للدفاع عن نفسها أو صغارها، علماً أن القرود قد تتعايش مع تلك الأمراض لكنها غاية الخطورة على الإنسان.

وطالبت عبدالقادر بضرورة أن تشمل قرود جامعة الخرطوم رعاية بيطرية مع متابعة سلوكها وتحركاتها تحسباً لظهور أي أعراض مرضية عليها، بخاصة أنها تعيش في وسط بشري كبير.

من جهة أخرى، يحذر الناشط في مجال حقوق الحيوان لطفي حيدر من أن القرود باتت تواجه خطر الموت جوعاً أو تعرضها للدهس عند محاولة عبورها شارع النيل باتجاه النيل الأزرق المحاذي للجامعة.

ويعتقد بأن كل منطقة شمال الخرطوم، امتداداً من شريط سكة الحديد مروراً بكلية طب جامعة الخرطوم وحتى كلية غوردون المجاورة للنيل الأزرق، كانت حتى نهاية القرن الـ19 عبارة عن غابة تزخر بكثير من الحيوانات الصغيرة وأبرزها القرود، ثم بدد الزحف العمراني استقرار تلك الحيوانات فهجرت مناطقها طبقاً لذلك الزحف، لكن القرود ارتحلت إلى منطقة كلية غوردون سابقاً التي هي في الأصل امتداد لتلك المنطقة الغابية ووجدت طريقها للعيش هناك بحكم طبيعتها المستأنسة القابلة للتعايش مع البشر.  

يقول حيدر إن قرود الجامعة باتت تعاني كثيراً في الآونة الأخيرة، بخاصة مع إغلاقات جائحة كورونا التي طاولت الجامعة، بالتالي غياب مصدر مهم لرزقها وأكلها بعد إغلاق مطاعم وكافيهات الجامعة التي كانت تعتمد عليها في التغذية بعيداً من موسم إثمار المانجو وبعض الأشجار الأخرى.

ويضيف "حاصر الجوع في تلك الفترة كثيراً من القرود، واضطر بعضها إلى الهجرة من المكان بحثاً عن الطعام، حتى إن بعضها وصل إلى أحياء في الخرطوم وأم درمان على رغم بعد المسافات، وهي تتعرض في رحلتها تلك إلى كثير من الأخطار كالملاحقة والدهس، وقد ينفق صغارها في هذه الرحلة الشاقة، وكذلك يهددها التجريف الذي تتعرض له أشجار شارع النيل، سواء بالإزالة عن طريق السلطات المحلية، أو بسقوطها بسبب عوامل الطبيعة.

حيوانات نادرة

يزخر السودان بمجموعات كبيرة من الحيوانات البرية، منها النادر والمهدد بالانقراض، ويتركز وجود القرود في السودان في مناطق عدة بإقليم النيل الأزرق ومناطق غابات سنجة وسنار والدندر وأيضاً بولاية الخرطوم وعدد من المناطق الجبلية وأكثرها من نوع النسناس الموجود بأعداد كبيرة في السودان، إلى جانب أنواع أخرى من القرود أكبر حجماً مثل "الشمبانزي" و"الغوريلا".

وتعود جذور جامعة الخرطوم لعام 1898، عندما اقترح اللورد كيتشنر إنشاء كلية تخليداً لذكرى تشارلز جورج غوردون الذي قتل أثناء الثورة المهدية عام 1885، تحت اسم "كلية غوردون التذكارية"، وافتتحها اللورد كيتشنر رسمياً في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1902، وتم دمج مدرسة "كيتشنر" للطب في الكلية الجامعية في العام نفسه، وفي 24 يوليو (تموز) 1956، أقر البرلمان مشروع قانون منح الكلية الوضع الجامعي الكامل، لتبدأ مسيرة جامعة الخرطوم الحالية مع التوسعات الكبيرة التي ظلت تشهدها حتى الآن.