معضلة الحزبية والحالة الوطنية الأردنية

جفرا نيوز - بقلم د. مهند مبيضين

أحد أبرز تحديات التحديث السياسي في الأردن، هو غياب التربية الحزبية، ورسوخ ما هو عكسها وهو الانتماء المناطقي والجهوي عند الفرد أو المسؤول أو الأستاذ الجامعي، فالحزبية الوطنية، تجعل المرء يتحرر من نزعته وانتمائه المناطقي او الجهوي إلى دائرة الانتماء الوطني، فيغادر الهوية الفرعية إلى هوية وطنية عامة.

هذا الواقع الذي ينتمي فيه الأفراد ويتصرف وفقه المسؤول احيانا (أولوية خدمة مناطقهم والتعبير عنها والانحياز لها) أسست له حقبة طويلة من غياب الحياة الحزبية والتي تلت العام 1956 وهو العام الذي شُكلت فيه أول وآخر حكومة حزبية في الأردن برئاسة سليمان النابلسي بين عامي 1956 -1957، والتي كان فيها سبعة وزراء ممثلين للحزب الوطني الاشتراكي (الذي فاز بانتخابات ذلك العام وشكل اكثرية برلمانية)، وثلاثة وزراء مستقلون، ووزير ممثل لحزب البعث العربي الاشتراكي ووزير ممثل للحزب الشيوعي الأردني، وبرغم المدة القصيرة لتلك الحكومة فقد شهد الأردن والمنطقة احداثا جساما، ومنها العدوان الثلاثي على مصر، وتعريب قيادة الجيش العربي الأردن، وطرح الولايات المتحدة لمشروع ايزنهاور الذي هدف إلى محاربة المدّ الشيوعي، وتمدد الناصرية وسيادة خطابها في المنطقة.

من ناحية تاريخية ولاعطاء حكم على تلك الحكومة والحقبة التاريخية الحرجة، يبنغي الاطلاع على جملة من السيّر والوثائق ومنها: مذكرات اكرم زعيتر (الصادرة عن المركزالعربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة)، وسيرة حياة الملك حسين التي دوّن فيها ظروف تلك الحكومة واشكالياتها، والوثائق البريطانية (مجموعة التقارير) وما كتبة المؤرخ سليمان الموسى، ومذكرات جمال الشاعر، وغيرها من الدراسات والبحوث واليوميات.

تلك الحقبة انتهت بإقالة حكومة النابلسي وغياب الحياة الحزبية، وصولا إلى عام 1989 وما تلاه من انفراجه كبيرة في الحياة السياسية، لكنها انفراجه كانت مرحلية لحين اقرار قانون الصوت الواحد عام 1993 الذي مثل اصابة بالغة للديمقراطية الاردنية، والذي كان نتيجة لتضخيم مخاوف ابقاء الانتخاب في البرلمان على غرار مجلس العام 1989، وذلك التضخيم اشتركت به قوى ورؤى ليبرالية ووظيفية وأمنية. تلى ذلك صدور قانون الاحزاب لعام 1992 الذي بموجبه عادت الحياة الحزبية، ولكن تلك التجربة عبر ثلاثة عقود 1992 -2022 لم تؤد إلى تربية وتنشئة حزبية، فجل مؤسسي الاحزاب الجديدة التي ولدت في تلك الحقبة انتمو لمناطقهم واصدقائهم وداوئرهم الضقية، ولم يقوموا بمغادرة المناطقية والجهوية نحو الوطنية الحزبية.

المهم ان الاردن اليوم باقرار قانون الانتخاب لعام 2022 والذي يمنح الناخب صوتين على مستوى محلي وعام، أعطى للاحزاب فرصة كبيرة لوصولها البرلمان بشكل متدرج بتخصيص حُصّةحزبية في البرلمان 30 % في المجلس النيابي المقبل (العشرون) مروراً بـ 50 %، ووصولاً إلى نسبة 65 % خلال السنوات العشر المقبلة.ما يعتبر تحولا كبيرا من جهة الدولة نحو الحزبية السياسية ونحو التحديث في بنية المجتمع وفي التداول السياسي.

صحيح ان الطريق طويل لاخذ الناس نحو الانتماء الحزبي الوطني ومغادرة المحليّات، التي ستتولى مجالس البلديات تلبية مطالبها الخدمية، لكن الواضح أن عملية تأسيس الأحزاب الجديد يجب ان تراعي اهمية تمثيل الناس العاديين وليس النخب فقط، فما يجري هو استثمار واعادة تكريز للنخب او ما يسميه البعض بالتدوير السياسي.

هذا لا يعني ان جميع المحاولات الجديدة تمثل تلك الحالة، فهناك صدق لدى البعض وتوجه نحو الناس وتنازل عن الذات نحو الكل الوطني، وهناك تقدميون وديمقراطيون حقيقون يريدون حياة حزبية ناجزة، لكن هناك ايضا من يريد الحزب للبقاء في الصدارة، وهذه امر طبيعي والتجربة برغم صعوبتها لكنها ستصلح نفسها، وما علينا إلّا ان نتفاءل ونحتكم للأمل وحب الوطن، وان نستفيد من تجربتنا التاريخية.