الأهازيج الشعبية في الأردن وفلسطين.. سِراجُ الحصّادين
جفرا نيوز - الموروثُ الشعبيُّ لأيِّ أمّةٍ/ قوميّة/ وطن/ بلد هو جزءٌ من الهويّة الجامِعة، ومن المنجز اللاماديّ المتراكمِ على مدى العُقودِ والقُرون.
الأهازيجُ الشعبيّةُ جزءٌ من هذا الموروث. إنها عَبَرات الناس طلبًا للمطر، فرحًا بمولود، ابتهاجًا في عرسٍ كانت القُرى تشارك فيه أيام زمان بقضها وقضيضها. وهي مواويل ساحةِ الوَغى، منصةُ التّباهي بين شباب المكان ورجالِه وصناديدِه.
إنها، أي الأهازيج، رَجْعُ الأيامِ البعيدة، صدى المسرّاتِ الطالعاتِ من خيرِ البَوايك، دموعُ سنبلة تجف فتملأ الوادي سنابل، سِراجُ الحصّادين، قنديلُ الزّيتِ في كلِّ بيْت.
وفي الأردن وفلسطين، على وجه الخصوص، وبما يمثّل امتدادًا لبلاد الشام جميعها، لا يشحُّ زيتُ تلك الأهازيج، يسكنُ حبّة الزيتون، فإذا بها سِدرة المنتهى. يضربُ العشاق الأرضَ، أرضَ أرزاقهم وقمحهم وإرث أجدادهم، يضربونها بالموّال، بأغنيةٍ عن ريفيةٍ تحملُ جِرار الماء، فإذا به، الماء في تلك الجِرار، يستحيل عسلًا مصفّى، نبيذًا يعرف من أيِّ الكروم سال شَهدُه، ومن أيّ الشّفاه اكتوى بنار الجَوى سُهدُه.
الأهازيج في الأردن وفلسطين هي قيثارة العرس، نبع الغزل، ماء الياقوت، مذياع البيوت، شجن الليالي، رقص الخيل في دروب الصبر والرضا، طيرُ الغضا.
هي (الدلعونة) المتغزلة بالهوى الشمالي:
(على دلعونة على دلعونة الهوا الشمالي غيرلي لونه)
الموجوعة من الغربة وطول الغيبة:
(ويلي عليهم ويلي عليهم طالت الغربة واشتقنا ليهم).
وهي بهذا المعنى، تشكّل انعكاسًا لحنيًّا جَماليًّا تِلقائيًّا جمعيًّا للمشاعر التي يطلقها الناسُ لحظات فرحهم وحزنهم وشكرهم وألمهم، بِرجْع صدىً حيويّ، وألحان مزيّنة، وكلمات عذبة، تصفُ بساطةَ الحياة وصفْوَها في هذا الزّمان، أو ذاك.
في سياقٍ متّصل، لا تختلف كثيرًا الأهازيج الشعبية الأردنية عن شقيقاتها في بلاد الشام جميعها، مع قربٍ أكثر من أهازيج فلسطين.
وهو ما يتجلّى أكثر من غيره في أهازيج الشمال الأردني، وكذلك الوسط الغربي القريب من نهر المحبة المارّ بين ضفتيْن شقيقتيْن.
"تشكّل انعكاسًا لحنيًّا جَماليًّا تِلقائيًّا جمعيًّا للمشاعر التي يطلقها الناسُ لحظات فرحهم وحزنهم وشكرهم وألمهم"
هذا ما يمكنُ أن يُقال عن أهازيجِ السلط والبلقاء جميعها، وما يمكن أن يُقال عن أهازيج جرش وعجلون وإربد والرمثا، من دون أن ننسى أهازيج الوادي الأخضر. وحتى في المفرق والبادية الشمالية، هنالك أهازيج قد يتبيّن أنها مشتركة مع مدن حوران وسهلها الممتد، ومع السويداء، وصولًا إلى بصرى الشام.
أهازيج السلط..
حسن أبو قريق وأحمد الخريسات
لأهازيج السلط، على وجه الخصوص، عبقٌ يشرّق ويغرّب ويمتدُّ شمالًا وجنوبًا، فإذا أهازيج المدينة العصيّة من كل بستان وردة، ومن كل منطقة قَبَس.
هذا ما أدركه مبكرًا، سبعينيات القرن الماضي، الباحثان الشيخان الراحلان: حسن أبو قريق الخريسات (1946 ـ 2021)، وأحمد الصالح العيد الخريسات (1944 ـ 2021)، فقررا أيامَها، ومعهما باحثون وأكاديميون كثر، نذكر على وجه الخصوص منهم: الباحث إسماعيل الدبّاس، والباحث د. هاني العمد، رئيس لجنة كلفتها وزارة التربية والتعليم الأردنية ودائرة الثقافة والفنون (لم تكن قد تأسست وزارة الثقافة بعد) مطالع سبعينيات القرن الماضي بجمع التراث المتعلّق بالأهازيج.
جمعوا ومعهم كل متطوّعٍ متحمّسٍ فزّاع، ومعلّمون كثر من مدارس وزارة التربية والتعليم، أهازيج البلاد من شرقها إلى جنوبها، ومن شمالها إلى غربها.
حمل الجميع حرصهم ووطنيتهم ومعارفهم، قطعوا الأطيان والأميال والمسافات، من الشمال حتى أقصى الجنوب، ومن الشرق حتى ابتسامة الغرب نحو القدس وبلادنا الحبيبة هناك.
صارت الأهزوجةُ كلمةَ سرِّ التلاقي، كوشان الوحدة، نبراسَ العجلةِ حين تتعطّل دواليبها، فتحرّكها الروح الأبيةُ المجدولةُ بحروفِ واحِدة، المزهرةُ بمعانٍ واحِدة، النابعةُ من حقلِ عطاءٍ واحِد.
التفاتة..
للمحافظة على التراث اللامادي للسلط وما حولها، وللبلقاء عمومًا، ولمختلف مُحافظات الوطن، ولكل بُقعةٍ أردنيةٍ، مدينةً كانت، أو لواء، أو بلدية، أو قرية صغيرة، أو حتى بادية متوارية خلف خطوط الشمس، تطلب الكلأ والماء، قام متطوعون مثابرون بجمع الأهازيج الشعبية من هذه الأفياء جميعها، بحرصٍ وطنيٍّ جامعٍ مانِع، لا يُؤْثِرُ مدينةً على غيرِها، ولا محافظةٍ على شقيقتِها في الربوعِ المحملة بالأهازيج، كما لو أن تلك الأهازيج بعضُ ذخيرةِ المعنى، عنفوانُ الوجود، شهدُ العسلِ النابعِ من نبضِ النّاس وأحلامِهم وتراويدِهم.
"أدرك الباحثان حسن أبو قريق الخريسات (1946 ـ 2021)، وأحمد الصالح العيد الخريسات (1944 ـ 2021)، أهمية حفظ الأهازيج، فقررا مع باحثين وأكاديميين كثر، مطالع سبعينيات القرن الماضي، جمع التراث المتعلّق بالأهازيج"
في هذا السياق، كان لا بد من التفاتة وفاء للراحليْن اللذيْن أشرنا إليهما أعلاه: حسن أبو قريق الخريسات، وأحمد الصالح العيد الخريسات، حيث شاءت إرادة الله، جلّ في علاه، أن يغادرانا على التوالي نهايات العام 2021، قبل أن يحظيا ببعض تكريمٍ وإعادة اعتبار لمنجزهما، وتقدير جهدهما (رحل الشيخ أحمد قُبيل الشيخ حسن، وتحديدًا خلال تصوير فيلم خاص بجمع الأهازيج، فلم يتح له المشاركة في الفيلم، وكان رحل قبل ذلك بكثير ثالثهم إسماعيل الدباس، فلم يظهر سوى الشيخ حسن في الفيلم الذي أنتجته وزارة الثقافة الأردنية عام 2021، في خضم الاحتفالات بمئوية الدولة الأردنية، وأما باقي الجامعين المكلّفين فقد توزّعوا بين من أخذه الموت، ومن طواه النسيان).
كما لو أن روحيهما ارتبطتا وجدانيًّا ببعضهما، رحل رفيقا الدرب، الشيخ أحمد، والشيخ حسن، على التوالي، لا يفصل بين رحيليهما سوى بضعة أشهر فقط.
في ساحة العين، وسط السلط، كانا يجتمعان، تلهبهما أهزوجة من طراز:
"شباب قوموا العبو والموت ما عنّه
والعمر شبه القمر ما ينشبع منّه
يا من لقى محرمه بالسوق مرميه
شريتها باربعه وبرطيلها ميه
يا بنت شيخ العرب يا تركمانيه
وابوكي شيخ العرب حاكم على ميه
يا بنت شيخ العرب يا ام العباه الزرقا
وابوكي شيخ العرب حاكم على البلقا
والبكرج الي انكسر رنت فناجينه
شيخ بلا عزوته قلت مراجيله".
لقطاف الزيتون أهازيج
في الضلوع التي حول القلب تسكن الأهزوجة ما إن يستمعان لها، تفجّر فيهما جذوة الفعل المفيد، ومع دورة من دورات (المنقلة)، أو (النقلة) اللعبة الشعبية الأكثر انتشارًا في السلط، الموثقة كما لو أنها ماركة مسجلة باسم كبار السنّ هناك، مع انضمامات قليلة بين الفينة والأخرى لشباب أعجبتهم تلك اللعبة التنافسية الشبيهة بكثير من ألعاب بلاد الشام الشعبية، مثل (الضومنة)، وطاولة الزهر، و(السيجة). مع دورة حجارتها، وصيحات الرجال تفاعلًا مع مآلات واحدة منها، يعود الشيخان إلى مشروعهما، يراجعان ما أنجزاه، وما ينتظر. يعودان إلى رئيس اللجنة، الدكتور هاني العمد، يقرران وجهة رحلة نهاية الأسبوع، فأيام الخميس والجمعة والسبت كانت للمحافظات البعيدة في الجنوب، مثل الكرك والطفيلة ومعان، وفي الشرق، حيث المفرق وما حولها، وباقي أيام الأسبوع كانت لمدينتهم السلط وما حولها من حواضر بني عبّاد، والشونة الجنوبية، والعارضة، والفحيص، وماحص، وعيرا، ويرقا، وعموم مناطق البلقاء.
يوميات الحياة..
يا منجل يابو رزة/ شو جابك من غزة
في روايته "ظلال القطمون" يتكئ الأديب الفلسطيني/ الأردني، د. إبراهيم السعافين، على الأهازيج الشعبية في سياق رصدِ أبعادٍ تاريخية وجغرافية واقتصادية وسياسية وثقافية خاصة بالمجتمع الفلسطيني، واصفًا عادات الناس وتقاليدهم. فالأهازيج الشعبية تعد من أكثر الأنماط الشعرية التي يستخدمها الإنسان ليعبّر عن همومه وأشجانه، وأفراحه وابتهاجه، وقد عرف العرب الأهازيج منذ القدم، فعبّروا بها عن همومهم وأحزانهم وأفراحهم وابتهاجهم.
"حمل الجميع حرصهم ووطنيتهم ومعارفهم، قطعوا الأطيان والأميال والمسافات، من الشمال حتى أقصى الجنوب، ومن الشرق حتى ابتسامة الغرب نحو القدس وبلادنا الحبيبة هناك"
في دراسة تحمل عنوان "الأهازيج الشعبية في رواية "ظلال القطمون" لإبراهيم السعافين" للباحث د. مخلد شاكر، يتبيّن لنا أن رواية السعافين تزخر بتلك الأهازيج بوصفها نشيدًا شعبيًّا بلغةٍ دارجةٍ عامّة بسيطة ينشدها القرويون في معظم مناسباتهم، وهي كثيرة ومتنوّعة، فإذا بالأهازيج تصبح يوميات حياتهم منذ الولادة وحتى لحظة الرحيل. وفي المسافة بين الولادة والموت، تحضر الأهازيج منذ اللحظة الأولى التي تفرح خلالها أسرة بمولود، وفي طقوس الختان، ومع أول كرج الحجل، ولتنويم الطفل أهازيج، أو تهاويد:
"نامي يا عيني نامي واتهني بالنوم".
ويحضر الحمام في تهاويد لبنان وفلسطين ومصر وسورية:
"يلا تنام يلا تنام وأهديلك طير الحمام.. روح يا حمام لا تصدق بغنيله حتى ينام.. شعره نازل على جبينه.. روحي وعمري بهدي له". حتى في الهدهدة المصرية يحضر الحمام كذلك: "نام يا حبيبي نام.. وأدبحلك جوزين حمام".
وعندما يكبر ويصبح الوليد عريسًا:
"عريسنا زين الشباب
زين الشباب عريسنا
عريسنا عنتر عبس
عنتر عبس عريسنا
عريسنا ضمة ورد
ضمة ورد عريسنا
عريسنا ما أبدعوا
مثل القمر مطلعو
عريسنا زين الشباب
زين الشباب عريسنا".
لحناء العروس أهازيج
أو تصبح الوليدة عروسًا. وللعرس، على وجه العموم أهازيج تتناول مختلف تفاصيله، ومن هذه التفاصيل ليلة الحنّاء:
"لمّي يا لمّي شديلي مخداتي وطلعت من البيت وما ودّعت خياتي
لمّي يا لمّي شديلي قراميلي وطلعت من البيت ما ودعت أنا جيلي".
وقبيل خروج العروس من بيت أهلها:
"هناها يا هناها والباشا يستناها.. يا باشا ربّط خيلك تتحمرّ حناها".
وأما الحصاد فكان له الحصة الأكبر من أهازيج الناس في الأردن وفي فلسطين:
"منجلي يامن جلاه.. راح للصايغ جلاه.. ما جلاه إلا بعلبة.. ريت هالعلبه فداه".
ومنها:
"رن حجل البديوية.. رن تسمع له دوية.. من حلب لاسكندرية.. هيه يابو ميلوية.. مر ما سلّم عليا.. مر فدان وعطاشا والمناهل مرتوية".
وأما الحجل فهو الخلخال الذي تضعه المرأة حول قدمها، وهنا إشارة إلى دور تلك البدوية في غمر الزرع والمحصول.
ومنها، أيضًا، وأيضًا:
"عنا واحنا اصحابه بالمناجل ما نهابه
شو غدا الزحاقات قال له بيض القرقات
يا حصاد بالوادي لا خبز ولا زاد
يا حصاد الملوخيه لا خبز ولا ميه
يا ريت الحصيده كلها قطاني لا اشوف المنجل ولا المنجل يراني
يا ريت الحصيدة كل عام تعود ونحصد الحصايد وندرس على القاعود
يا زرعي او نالي مالي حيل امد ايدي
مالي حيل ولا حيله ماللي حيل عطكاويلي
يا مارس واهلك غياب ماحضرو طعن الشباب
لو انهم حضرو سدو مسد الغياب
يا زرعي يازريعاتي يا مونه ولاداتي
يا حصاد اكرب سيرك ام اقديد لغيرك
ياحصاد احزك سيرك ام الجدايل لغيرك
يا حصادين الجهاجير عقبو سبل للنايم
منجلي يا منجلاه اخذته للصايغ جلاه
ما جلاه الا بعلبه ريت هالعلبه عزاه
منجلي مرجوب وانا ابو علي منجلي مرجوب للزرع القوي
منجلي يابو حرافش يلي في الزرع يطاحش
يا منجل يابو رزة شو جابك من غزة
جابني حب البنات والغمور العاليات
جابني حب البنات هالبنات الغاويات
منجلي يا ابو المناجل بهالزرع نازل".
وأما استسقساء المطر فحدّث عن أهازيجه وأسهب:
"يا الله الغيث يا ربي… تسقي زرعنا الغربي
يا الله الغيث يا رحمن… تسقي زرعنا العطشان
يا الله الغيث يا دايم… تسقي زرعنا النايم
يا الله الغيث يا ربي… خبزي قرقد بعبي".
سراج الحصادين
وحتى في الحروب كانت تحضر الأهازيج، للشهيد والوعيد والفخر بالرصاص والفداء:
"طلت البارودة والسبع ما طل
يا بوز البارودة من دمو مبتل
طلت البارودة والسبع ما جاش
يا بوز البارودة من دمو مرتش".
ومن أهازيج الحرب أيضًا:
"الله الله يا مهون المصايب
اضرب رصاص خلّي رصاصك صايب".
وفي استنجاد الفلسطينيين لأشقائهم العرب:
"هب الرصاص
والبارود غنّى
جيش العرب
يا حامي وطنّا".
وللحب نصيب من الأهازيج:
"ليا وليا يا بنية .. يا وارده على المية
سمرة وجرحت قلبي… ردي السلام عليا".
أهازيج حزينة (بكائيات) عند الوفاة:
"يا نايحه نوحي عليه بالنوحي
فلان امدد على اللوحي
زقزق يا عصفور وازعق يا غراب
فلان مقتول ومرمي في الحزام".
وأخرى فرحانة في الأعراس وزفاتها وفارداتها ورقصاتها ودبكاتها.
حتى حجيج بيت الله الحرام، أبدع أجدادنا وآباؤنا لهم أهازيج، وأطلقوا عليها اسم تحانين الحجّاج: "يا حنينة حنّي".
في استقبال العائدين من السفر، وفي تدليل القهوة ودلالها، وفي فض النزاعات وتطويق الشرور، وحتى في (عونة صبّة) البيت، أو كما في تسمية أخرى (عَقْدة البيت)، حين يعين الجيران جارهم الذي يريد أن يعقد سقف بيته بصبّة الإسمنت (البطون) وخرسانة الحديد.
إنها تعبير صادقٌ مباشرٌ جليٌّ عن مشاعر الناس وعبراتهم وتطلعاتهم وآلامهم وآمالهم.
ومن الأهازيج الأردنية العذبة بكلماتها ولحنها:
"رحبي بضيوف أبوك يا عروس يا ام الاسوارة.. يا هلا بضيوف ابويا لو كانوا ملات الحارة..".
"تتردد الأهازيج في استقبال العائدين من السفر، وفي تدليل القهوة ودلالها، وفي فض النزاعات وتطويق الشرور، وحتى في (عونة صبّة) البيت، أو كما في تسمية أخرى (عَقْدة البيت)"
صحيحٌ أن الأهازيج جاست مختلف تفاصيل الحياة، إلا أنها شكّلت بالنسبة للحصادين على وجه الخصوص سراج ليلهم في البيادر. مشكاة صبحهم، وكل ما يعقده الفلاح على خير الموسم من آمال، ويبنيه من مشاريع، ويأمله من تحسّن الحال، وسداد الديون، وإدامة عودة الخصب من جديد، خلال الصراع الجدليّ الممتد بين الخصب واليباب والجفاف والمحل.
وبإطلالة سريعة على الأهازيج الأردنية والفلسطينية، يُلْحَظُ من دون عناء بحث التشابه الكبير بينها، والتقارب الجليّ في أجوائها ومرجعياتها. كيف لا وكثير من هذه الأهازيج قطعت النهر مع من قطعوه، وسكنت دور الناس هنا، تمامًا، كما سكنها المصير المشترك، والحُلم الجامع الكبير. فالأهازيج هي بشكلٍ أو بآخر: ولادةُ المواقدِ الواحِدة، زعفرانُ المائدةِ الواحِدة، الشيحُ والقيسومُ النابتُ من ذاكرةٍ واحِدة.
فن قديم..
الهزج، كما يؤكد الباحثون، فن قديم عرفه العرب منذ الجاهلية، ولكنهم أطلقوا عليه مسمّيات مختلفة. فمن ذلك ما يعرف بترقيص الأطفال، ومنه الرجز الذي كانوا يتناشدونه في الحروب، وكذلك الحُداء الذي كانوا يحثّون به الإبل على السير.
هزجٌ عذبُ الألحانِ قصيرُها، خال من الموسيقى، باستثناء موسيقى الروح التي تحمل الزاد والزوّاد للحرّاثين، ولِمن يحفرون عروق الأرض بعرقِ عملهم وكدّهم: "يا مروّح ضوّاك الليل والشمس غابتْ/ عاد حنّا طربنا والمناشير طابـتْ".