رئيس حكومة لبنان يبشر بـ"العصفورية" على وقع توالي الأزمات

جفرا نيوز - على أعتاب نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون يقترب لبنان من عيش مرحلة جديدة من الفراغ المطلق في السلطة، قد تكون كسابقاتها على غرار ما حصل عند مغادرة عماد آخر الموقع الأول في السلطة هو ميشال سليمان، حينذاك طالت فترة الشغور إلى حين نضوج الصفقة "الحريرية - الباسيلية" (رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل)، أو أن نكون أمام تجربة فريدة يخطها رجل قصر بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية) وتشكل مفاجأة لخصومه كما حصل في نهاية التسعينيات. حتى الساعة، يؤكد الرئيس عون أمام سائليه أنه لن يبقى في القصر الجمهوري بعد نهاية ولايته، ويتفق مع المنادين بضرورة انتخاب رئيس جديد للبلاد في المواعيد الدستورية التي تبدأ بنهاية أغسطس (آب)، أي قبل شهرين من نهاية ولاية الرئيس الحالي، وتنتهي كحد أقصى عند منتصف ليل اليوم الأخير من أكتوبر (تشرين الأول).

سيناريوهات المرحلة المقبلة "الأسوأ لم يأت بعد؟"

ربما عن غير قصد، رجح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي السيناريو الأسوأ، عندما تحدث عن الذهاب إلى "العصفورية"، ليس لأنه المخطط الأفضل، ولكن لأنه الأكثر واقعية في ظل ظروف لبنان الراهنة حيث يفتقد مجلس النواب أكثرية موصوفة واضحة، ولا إجماع على مرشح معين للرئاسة، أقله لا تتوفر أكثرية الثلثين لانعقاد جلسة الانتخاب أي 86 نائباً، فقد اعتادت البلاد منذ 2005 على الفراغ في سدة الرئاسة، وعلى طول فترات تصريف الأعمال الحكومية، فما كان في يوم من الأيام استثناء، ولحظه واضعو الدستور كاحتمال أخير لعدم الوقوع في الفراغ التام للسلطة، يتحول في البلاد، ذات الديمقراطية الطائفية إلى أصل من أصول الحكم، فيتفنن قادة وزعماء الطوائف في المماطلة والتأجيل والتعطيل إلى أن يحين موعد القطاف.

تشخيص الحال اللبنانية

يدار لبنان اليوم في ظل حكومة مستقيلة، تتولى تسيير الأعمال مع غياب التوافق على تأليف حكومة جديدة، وحاول رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي تقديم تشكيلة تنطلق من توازنات حكومته السابقة، لكنها اصطدمت بتقاسم الحصص وتعارض أهواء مكوناتها، بينما رئيس الجمهورية يريد الحفاظ على مواقع القوة والتأثير الفاعل في حقبة ما بعد انتهاء ولايته، وبين هذا وذاك تسود القناعة بين سائر المكونات السياسية أن لبنان دخل مرحلة الفراغ الطويل الأمد، بالتالي فإن صلاحيات حكومة ميقاتي التي يفترض أن تكون محدودة النطاق، والتي تستخدم عند الحاجة إلى منع الفراغ التام، ستكون أمام تكرار لتجربة تمام سلام حيث انتقلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة مجتمعة بموجب النص الدستوري، ومما لا شك فيه أن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام النقاش الحاد بين القوى المتصارعة حول حدود تصريف الأعمال ومشروعية القرارات التي ستتخذها حكومة ميقاتي الممدد لها.

الدستور والشغور المتكرر في السلطة

ولحظ المشرع اللبناني حال الشغور في الرئاسة الأولى، وجاء في المادة 62 معدلة في الدستور أنه "في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء". وكان النص الأصلي الموضوع في عام 1920 يشير إلى أنه "في حال خلو سدة الرئاسة لأي سبب كانت تناط السلطة الإجرائية وكالة مجلس الوزراء"، أي إن الدستور حدد آلية إدارة الفراغ في البلاد، ولكن في ظل غياب نصوص قانونية ملزمة تحدد مهلاً إلزامية لتشكيل الحكومة، أو انتخاب رئيس الجمهورية، أو إلزام النواب بالحضور، تبقى فترة الشغور رهن اتفاق المتصارعين، وحسن نياتهم أو حتى سوء نياتهم أيضاً، وليس من المبالغة القول إن مقاطعة جلسات انتخاب رئيس الجمهورية في الفترة الفاصلة بين نهاية ولاية ميشال سليمان، وانتخاب ميشال عون كانت بمثابة بصمة سيئة في العرف الدستوري اللبناني في مرحلة ما بعد الطائف، فقد فتحت هذه التجربة الباب أمام قيام أي طرف من الأطراف بتعطيل أو نسف نصاب جلسة الانتخاب الرئاسية، بالتالي منع تأمين حضور ثلثي أعضاء مجلس النواب إلى حين فرض شروط هذا الفريق أو ذاك، أو إلى أن يقع حدث ما قد يوصف بالسيئ، ويدفع الفرقاء إلى انتخاب رئيس واستدراك أسوأ الشرور.

تصريف الأعمال منعاً للفراغ التام

عند كل استقالة حكومة وتعذر تشكيل أخرى، ومع نهاية كل عهد رئاسي أو شغور المنصب الأول في الجمهورية، يتكرر السؤال حول فلسفة تصريف الأعمال وحدودها. وأشار الباحث الدستوري وسام لحام إلى أن مفهوم تصريف الأعمال هو النتيجة الطبيعية للنظام البرلماني السائد في لبنان، الذي يقوم على الفصل المرن بين السلطات، إذ إن السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة تكون مسؤولة أمام مجلس النواب، وهذا ما يجعلها تتمتع بمسؤوليات حكم البلاد، بالتالي قدرة البرلمان على سحب الثقة بالحكومة، موضحاً أنه "عندما تعتبر الحكومة مستقيلة لا يعود لمجلس النواب صلاحية طرح الثقة بالحكومة، ولا يمكنها ممارسة صلاحياتها المعتادة. من هنا ينشأ مفهوم تصريف الأعمال عملاً بمبدأ استمرارية المرافق العامة وضرورة تأمين المصالح الأساسية للدولة، لأنه لا يمكن أن تمتنع الحكومة عن ممارسة كامل صلاحياتها عندما تكون مستقيلة، لذلك تستمر في ممارسة هامش محدود من الصلاحيات الضرورية لتأمين حاجات المجتمع".

أما في ما يتعلق بحدود تصريف الأعمال فأكد لحام أنه "لا توجد لائحة نهائية بالأعمال المسموحة أثناء فترة تصريف الأعمال، ولا يوجد معيار لتحديد ما هو ضمن تصريف الأعمال من دونه، إلا أنه جرت العادة أن تكون الأعمال والقرارات التي يتخذها الوزراء أو المراسيم الصادرة من رئيس الجمهورية أثناء اعتبار الحكومة مستقيلة في نطاق ضيق، وأن تخضع لرقابة مجلس شورى الدولة الذي يحدد إذا كان العمل المتخذ يدخل في باب تصريف الأعمال"، لذلك يفترض أن تحصر الحكومة أعمالها في نطاق المعاملات اليومية والإدارية الروتينية، وعدم اتخاذ قرارات تترتب عليها نتائج من شأنها تقييد أعمال الحكومة المستقبلية أو تحد من حريتها في اتخاذ القرارات، أو أن يكون لها طابع سياسي واضح، أو اتخاذ ما يسميه القضاء الإداري بالأعمال التصرفية.

واستدرك الباحث الدستوري أنه "في الظروف الاستثنائية، يحق للحكومة المستقيلة اتخاذ أعمال تصرفية لتدارك الوضع الاستثنائي"، مشيراً إلى أنه قبل عام 1990 لم يكن هناك سند دستوري لتصريف الأعمال، وكان العرف هو السائد، وقد كرسه مجلس شورى الدولة، ولكن بعد اتفاق الطائف جاء الدستور ليؤكد أن الحكومة لا تمارس، قبل نيلها الثقة، أو بعد استقالتها واعتبارها مستقيلة، إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال في البند الثاني من المادة 64.

الحكومة الإسرائيلية توجه تحذيرات شديدة اللهجة للبنان

ويقر لحام أن نطاق تصريف الأعمال قد يتسع ويضيق حسب الظروف التي قد تمر بها البلاد، لافتاً إلى تأثير فترة تصريف الأعمال "في حال كانت الفترة قصيرة، مدة أسبوع أو أسبوعين، ليس هناك أمر ملح يستتبع توسيع نطاق تصريف الأعمال ويمكنه الانتظار، ولكن المشكلة تظهر عندما تصبح المدة أشهراً طويلة حيث يتحول الأمر العادي إلى ملح ويتطلب اتخاذ قرارات من حكومة تصريف الأعمال". ويأسف لحام لفترات الشغور السياسي الطويلة في لبنان بعد 2005، بسبب أزمة النظام السياسي القائم وعدم قدرة الزعماء على تشكيل حكومات في فترة سريعة، وبفعل الاختلاف على تقاسم الحصص، إذ انتقلنا إلى نموذج "تعتبر فترات تصريف الأعمال الطويلة أمراً عادياً"، متحدثاً عن محاذير تصريف الأعمال التي أدخلت بدعة الموافقات الاستثنائية، منذ حكومة ميقاتي في 2013، حيث جاء التعميم ليقول إنه "في حال وجود قرار لا يمكن اتخاذه خلال فترة تصريف الأعمال، يجب على الوزير الحصول على موافقة استثنائية من رئيس الجمهورية والحكومة"، مشدداً على أنه "لا وجود لمفهوم موافقات استثنائية ضمن الدستور"، كما يؤكد الأمر التالي، "يحق للحكومة الاجتماع لتصريف الأعمال ومناقشة الأمور الإدارية، وخلاف ذلك هو غير الصحيح، لأنه تكرر في السبعينيات، وفي 2013، ولأن الدستور يلزم الحكومة بالاجتماع دورياً، ويجب ألا يترك لمزاجية شخص معين"، "وفي حال الشك في أن أحد القرارات يخرج من دائرة تصريف الأعمال يمكن الطعن به أمام مجلس شورى الدولة الذي لديه صلاحية تقرير إذا ما كان تقدير السلطة السياسية كان في محله أم لا".

وأكد لحام أن كل متضرر مباشرة من قرار أو مرسوم تم اتخاذه خلال فترة تصريف الأعمال يمكنه الطعن عليه أمام مجلس الشورى خلال فترة شهرين من تاريخ إصداره لتجاوز حد السلطة، مشيراً إلى أن الحكومة المستقيلة يمكنها ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية على الرغم من كونها في فترة تصريف الأعمال تفادياً للفراغ المطلق في السلطة التنفيذية.

طعن بتعميم الميقاتي

ومن أجل تقييد نظام الموافقات الاستثنائية وإلغائه، تحرك النائبان إبراهيم منيمنة وحليمة قعقور و"المفكرة القانونية" لتقديم طعن أمام مجلس شورى الدولة ضد التعميم رقم 17/2022 المتعلق بآلية تصريف الأعمال بعد استقالة الحكومة. واعتبر الطاعنون أن التعميم يكرس آلية الموافقات الاستثنائية أي الموافقات التي يتولى شخصان هما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة اتخاذها من دون الرجوع إلى الحكومة المستقيلة ومع الوزير المتخصص أو من دونه حسب الحالات. وجاء هذا التعميم ليكرس الآلية التي بدأت مع حكومة ميقاتي في 2013 من دون أن يكون لها سند دستوري. وأكد الطاعنون، خلال مؤتمر صحافي، أن هذه البدعة تبنى على بدعة أخرى تتمثل في التوقف عن دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، وهو ما يخالف المادة 65 من الدستور، "مقابل منح صلاحيات خارقة لشخصين هما رئيسا الجمهورية والحكومة".