أسواق حلب زاهية بالألوان وعابقة بالروائح ومعتقة بالقدم

جفرا نيوز - ما عليك سوى عبور باب أنطاكيا في حلب القديمة، شمال سوريا، ليتراءى على بعد خطوات منه عالم تعبق الأصالة في تفاصيله، يبدأ بروائح التوابل والزيوت العطرية وينتهي بالدهشة. كيف لا وتاريخ كامل مر من هنا، وتجار من مختلف المشارب والبقاع. وتوزع على طول الشارع المستقيم الممتد بطول 1200 متر بين سوق الزرب مقابل قلعة حلب شرقاً حتى أطراف باب أنطاكيا غرباً، أسواق متفرعة عن الأغورا (مكان جمع الحياة الثقافية والتجارية والروحية في العهد الهلنستي)، بعضها موازية والأخرى متعامدة مع المحور الأساسي، يمكن الدخول إليها من أبواب حلب والجنان والفرج والنصر وقنسرين وأنطاكيا، وهي تعد مدينة بحد ذاتها، نسبة إلى تنوعها اللافت وعمارتها العريقة، أو كما يحلو للبعض تسميتها بأكبر سوبرماركت في العالم.

أطول أسواق مسقوفة في العالم

يبلغ تعداد الأسواق الحلبية 37 سوقاً، وذكر كامل الغزي، أشهر مؤرخي حلب، أنها كانت تضم 15 ألف دكان، يتميز كل منها بتخصص مستقل بنوع من المنتجات أو القطع الحرفية، كالأقمشة الحريرية منها والمطرزة والعباءات والسجاد اليدوي والزجاجيات على اختلاف أنواعها والصابون الطبيعي والمعطر والقطع المعدنية الذهبية والفضية والنحاسية والجواهر والعطور، وغيرها.

وكما سمى البريطانيون حي لندن القديمة ذا الأسواق التجارية "السيتي"، كذلك حذا السوريون حذوهم وسموا منطقة تجارة حلب القديمة المتركزة في الأسواق والخانات "المدينة". وقد سجلت أسواق حلب كأطول أسواق مسقوفة في العالم بطول 17 كيلومتراً، وتشغل هذه الأسواق مساحة تقارب 16 هكتاراً من مساحة حلب القديمة داخل الأسوار والبالغة 400 هكتار.

وكان للأسواق حراس يغلقون أبوابها مع غروب الشمس لفصلها عن أحياء المدينة محافظة على موجوداتها، ويطلقون الكلاب الشرسة على أسطح الأسواق لمنع السرقة من طريق النوافذ.

وهنالك أسواق أخرى متنوعة خارج منطقة مدينة الأسواق كسوق النحاسين والنجارين، وغيرها، وشكلت حلب بأسواقها مجتمعة نقطة جذب سياحية على مر الزمن.

أقبية وعقود

يعود تاريخ أقدم هذه الأسواق إلى عام312  قبل الميلاد، وقد أسست على يد سلوقس الأول. وتُعد أسواق حلب بالنسبة إلى عديد من المؤرخين واحدة من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي، إذ تتميز عمارتها بما يسمى نوافذ النور والهواء، وتؤمن جواً معتدلاً لطيفاً يحمي من حر الصيف وأمطار الشتاء وبرده.

فقد أخذت الأسواق شكلها المعماري الحالي في مطلع الحكم العثماني، على شكل أقبية في سقوفها نوافذ الإنارة، بحيث توفر ما يتطلب من درجات حرارة وجو عام تبعاً لكل فصل بفضل سماكة سقوفها الحجرية، إذ كانت السقوف، في الفترة الزنكية والأيوبية، مشكلة من الحصر والقصب، إلى أن احترقت عام 1868، فأمر الوالي ببنائها بالحجر على شكل عقود، وأضيفت إليها النوافذ السقفية كما تبدو في الوقت الحاضر.

أسواق أثرية

وتقع أسواق حلب، المسجلة كلها كمبانٍ أثرية، في المنطقة العقارية السابعة. وأهم هذه الأسواق سوق الحراج المتخصص بالمخرجات الحراجية من الحطب والفحم وغيرها، وسوق الصابون الذي كان يعرف بسوق البلاط، وسوق الزرب الذي يسمى نسبة إلى الزرابي، وهي نوع من المنسوجات اليدوية، ويعتقد أنه محرف عن الضرب (من بيع مضارب البدو)، وهو قسمان علوي وسفلي تباع فيه الأقمشة والحطايط والبرمان، وفيه جامع الشيخ معروف، وهو المدرسة الشاذبختية التي ترجع إلى القرن الثالث عشر للميلاد. وعلى امتداد سوق الزرب نحو الغرب تقع سوق العبي أو النشابين، وإلى الشمال من سوق العبي يقع سوق الدهشة الذي سمي هكذا بسبب عرضه وارتفاعه.

عربة قطار تحمل ذاكرة الحج الدمشقية عبر الزمن

وهناك سوق الحور التي تقع بين السقطية وسوق الجنفاص ويباع فيه الحور وهو نوع من الجلود، وسوق الشام الملاصق لخان النحاسين، وفيه تباع بضائع الشام، وسوق إسطنبول، وهي سوق قديمة داخلية من باب الجامع الكبير حتى القنطرة، وخارجية مطلة على الجامع، وكانت تباع فيها بضائع إسطنبول قديماً، والطرابيشية أو الصايات وكانت مخصصة لبيع الطرابيش وحلت محلها تجارة الأقمشة، وسوق "الصياغ"، وفي حلب أسواق عدة للصاغة.

وعلى التوازي مع سوق الصياغ تقع سوق البالستان، الاسم المحرف عن كلمة "برستان"، وهي كلمة فارسية تعني بيع البضائع السيئة أو الرديئة، واصطلاحاً تطلق على سوق الألبسة المستعملة، وتسمى أيضاً الباذستان أو البازرجية وهي تصل بين سوق الحراج وسوق إسطنبول الجديدة التي تنتهي عندها سوق العطارين وفيها تباع التوابل وتوابعها، إضافة إلى سوق الحدادين والفرايين والجوخ والمحمص وخان الحرير والسقطية أهم أسواق حلب التي تضم خان القصابية.

سوق السقطية

تعد سوق السقطية من أشهر أسواق حلب، وتكمن أهميتها في كونها عقدة وصل بين سوق باب انطاكية وسوق العطارين، إذ تقع إلى الجنوب من المسجد الأموي الكبير وإلى الغرب من سوق العطارين، على مقربة من اثنتين من أعرق خانات حلب، خان الحرير والبنادقة، وهي عبارة عن ثلاث قباب مدببة من الداخل ومرتفعة ترتكز على قطع معمارية ركنية. أما الأرضية فقد رصفت بالحجارة البازلتية المحدبة، لتنتهي في طرفي الشارع بمجرى مستو يسمح بمرور مياه الأمطار.

وتتألف السوق من 53 محلاً تجارياً تتنوع تخصصاتها بين المأكولات الشعبية والحلويات الترائية والمعجنات والمواد الأولية. ويعتقد بعض المؤرخين أن تسميتها جاءت من بيع سقطات لحم الأغنام.

تعرض جزء كبير من السوق للدمار خلال الحرب، وتسلل الموت إلى معظم زواياها، لكن اليوم تعج بالحياة والحيوية بعد عمليات ترميم متقنة بمواصفات ومعايير عالية أعادت إليها رونقها وبثت الحياة في أرجائها مع الحفاظ على هويتها المعمارية الأصلية.

لم تنم أسواق حلب القديمة يوماً في إيقاع متصاعد مستمر، بل مرت بفترات ركود تارة وازدهار طوراً، وخضعت لتغييرات عدة عبر الزمن، سواء في الأعمال والأنشطة أم في التخصصات. وعلى الرغم من هذا التقطع في النمو، إلا أنها لم تتجمد يوماً، إذ لطاما نفضت هذه المدينة عنها غبار الركود وآثار البارود لتنهض معلنة ولادة جديدة.

اندبندت عربية - نيرمين علي