كيف حافظت غرف الجلوس العربية على تراث رمضان؟

جفرا نيوز - تصبح غرفة الجلوس في البلاد العربية في شهر رمضان مركز البيت، حيث التلفزيون، والجلسة العائلية، إما على طاولة السفرة، وإما في جلسة على الأرض، وهي شكل من الجلسات لا يزال مفضلاً لأهل الخليج العربي، والكثير من العراقيين والمصريين.

وغرفة الجلوس في المنزل هي مركزه كل أيام السنة عموماً لدى الطبقة المتوسطة في الدول العربية، لكن في رمضان تتأكد مركزيتها، لأن العائلة ستجتمع عند الإفطار الذي يكون عند غروب الشمس. ويبدأ الاجتماع قبل الإفطار بساعة، أو بدقائق على الأقل، ينتظر فيه الجميع الطعام الذي يجري تحضيره في المطبخ، بينما تنبعث الروائح في المكان للمقليات التي يفضلها أهل الشام على إفطارهم مع الحساء عموماً، وسلطة الفتوش التي تحتوي على كثير من الخضراوات.

غرفة الجلوس والمطبخ

تستغل الفضائيات العربية في شهر رمضان غرفة الجلوس التي يكون التلفزيون بمركزها، ويشاهده الجميع قبل الإفطار وخلاله وبعده، فتعرض المسلسلات الكثيرة المتنافسة بين الشاشات وبرامج الألعاب والتسلية، والتي تكتب وتنتج وتصور من أجل هذا الشهر، وليس لباقي أشهر السنة. فالجلسة العائلية في وقت واحد في غرفة الجلوس عند الإفطار هو موعد واضح ومحدد بالنسبة لشركات الإنتاج وللتلفزيونات وإداراتها، ففي هذه اللحظة سيتابع الجميع معاً ما تعرضه الشاشة، على الرغم من الخلافات بين الحاضرين لمن سيشاهد هذا أو ذاك من المسلسلات، وهذا يشبه الصراع بين شركات الإنتاج نفسها، والتي تفاخر بأنها أنتجت المسلسل الأضخم الذي يكون من بطولة ممثل معروف ويمتلك القدر اللازم من النجومية، ويكون أجره مرتفعاً جداً، مثل عادل إمام ويحيى الفخراني ويسرا ونيللي، أو النجوم الجدد كهيفاء وهبي ونيللي كريم، وغيرهم من الممثلين الشباب والمطربين الصاعدين.

لكن المطبخ في البيت الرمضاني يتخذ ديكوراً جديداً بسبب مركزيته أيضاً في المنزل، فمنذ قبل الإفطار بساعات حتى السحور، أي لمدة تقارب نصف النهار، تعود للمطبخ جاذبيته لأهل المنزل الصائمين طوال النهار.

في آخر ساعات النهار تبدأ الأغراض بالتوزع على طاولات المطبخ، ومنها على مجلى الصحون، ومن ثم فرن الغاز فوقه وداخله، وهنا نتحدث عن الأسر من الطبقة المتوسطة، التي أرست نظامها المعيشي منذ خمسينيات القرن العشرين في العالم العربي، ولكنها مُقدمة على الاندثار في معظم الدول العربية التي تعاني أزمات اقتصادية كبيرة بسبب التضخم العالمي الذي بدأ مع جائحة كورونا الطويلة، ثم مع الحرب الروسية على أوكرانيا.

هذا التضخم أدى إلى تآكل قيمة الرواتب في كل دول العالم العربي ودول العالم أجمع، ولكن تأثيره في المشرق العربي المشتعل بالحروب والأزمات منذ عقد من الزمن كان أقسى وأكبر، فبات راتب أستاذ جامعي في لبنان أو في سوريا أو في السودان لا يساوي أكثر من عشرين دولاراً شهرياً، بينما في العراق ومصر وتونس والجزائر فإن الوضع ليس أحسن حالاً بكثير، لذا فإن وصف المطبخ المكتظ بأنواع الخضراوات والمعجنات والحلويات واللحوم، قد لا يكون مُواتياً في هذه المرحلة.

دراما الحرب تناطح الشاشة الرمضانية... فمن ينتصر؟

لكن على الرغم من ذلك يبقى المطبخ الرمضاني محتلاً المركز الثاني في البيت بعد غرفة الجلوس، التي غالباً ما تزين بالمصابيح وأوراق السعف أو برسومات ملونة عن رمضان والعيد. ويكون المطبخ قبيل الإفطار في حال انشغال قصوى، عادة ما تتكفل به النساء في البيت، وعلى رأسهم الأم، فهناك من يفرم خضار السلطة، وهناك من يداري المقالي، وآخر ينتبه لما في الطناجر وفرن الغاز. وهكذا، إلى أن يعلن حلول موعد الإطار فينتقل كل شيء من المطبخ إلى غرفة الجلوس، حيث الجميع بالانتظار.

عادات وتقاليد صمدت وأخرى تلاشت

الكاتبان السعوديان إبراهيم السحيباني وياسين سراي الصويلح يكتبان في تحقيق مشترك عن تبدل العادات الرمضانية بأن اللافت في مظاهر هذا التحول هو "أنها تطاول في بعض الأحيان تقاليد قديمة جداً صمدت عصوراً وعصوراً. وبرأيهما أن مظاهر التحول التي طرأت على العادات الرمضانية تميل إلى التبسيط أكثر فأكثر. وطالما أن الصيام عن الأكل والماء لساعات طويلة فإنه لا بد من إعطاء وجبة الإفطار (والسحور) اهتماماً خاصاً لتعويض الجسم ما افتقده طوال النهار. فظهرت خلال مئات السنوات شخصية مميزة للمائدة خلال شهر رمضان. على سبيل المثال، في شبه الجزيرة العربية اعتاد الناس أن يفطروا على حبات التمر مع قليل من الماء أو اللبن. ومن ثم يتوجهون إلى أداء الصلاة على أن يعودوا لاحقاً لتناول وجبة الإفطار. أما في بلاد الشام مثلاً، فيتناولون الإفطار في جلسة واحدة. ولكل بلد أطباقه الرمضانية الخاصة، كالفول المدمس والسمبوسة وسلطة الفتوش والعصائر، وأشهرها قمر الدين والعرقسوس والخشاف وغيرها.

ويروى أن معاوية بن أبي سفيان كان أول من صنع الكنافة من العرب، التي وصفها له الطبيب لتناولها عند السحور. ومنذ ذلك الوقت صارت الحلوى من أساس المائدة الرمضانية. فهناك أنواع من الحلوى يكثر استهلاكها في شهر رمضان مثل اللقيمات، والقطايف، والمهلبية. وفي بلاد الشام هناك أنواع من الحلوى لا تصنع إلا خلال شهر رمضان مثل الكلاج العجين والجبن الذي يقلى بالزيت ثم ينقع في السكر. وبالطبع فإنه في عصر العولمة واندماج الشعوب لم تعد هناك مائدة خاصة بشعب من الشعوب، فقد تمازجت الأطباق والطبخات، فبات أهل الشام يأكلون أطباق من المائدة الخليجية المستندة على الأرز واللحم في أكثرها، وأهل الخليج العربي باتوا يعتمدون الحساء والفتوش الشاميين كطبقين أساسين على المائدة الرمضانية.

ويكمل الباحثان السعوديان في عرض العادات التي يختص بها شهر رمضان دون غيره، ومنها التهنئة بحلول شهر رمضان المبارك التي كانت من أجمل تقاليده الاجتماعية وأعرقها، وهذه التهاني المتبادلة كانت أساسية لتوطيد أواصر العلاقات الاجتماعية بين ذوي القربى والأصدقاء والمعارف. وقديماً كانت التهنئة تتم بزيارة المرء الأكبر منه سناً، والآن باتت أغلب التهاني عبر رسالة هاتفية أو بوست على وسائل التواصل الاجتماعي.

الكاتب أشرف سعد، في قراءته كتاب الباحث خالد العزب "رمضان في العالم الإسلامي" يرى أن بعض العادات ظلت راسخة في الوجدان الشعبي، وفي مقدمتها سفر مئات الآلاف من المسلمين إلى مكة المكرمة لأداء العمرة.

ويلاحظ المتجولون في وسط جدة، ازدحاماً شديداً قبيل مدفع الإفطار، أمام محال بيع الفول، وأشهرها "القرموشي" و"الغامدي". وتفضل العائلات الجداوية أن تبدأ الإفطار بـ"فك الريق"، أي بحبة تمر وفنجان قهوة عربية وقليل من الشوربة، ثم يذهبون إلى صلاة المغرب، والعودة لإكمال الإفطار الذي يكون خفيفاً.

موائد الرحمن في مصر

وصف الرحالة المغربي ابن بطوطة مظاهر شهر رمضان في مصر قائلاً، "إن العادة جرت ليلة الرؤية بأن يسير موكب المحتسب ومعه مشايخ كثر من الحرف كالطحانين والخبازين والجزارين والزياتين وباعة الفاكهة، وتصطحبهم الموسيقى وجماعة من جند القلعة، إلى بيت القاضي وينتظرون من يشاهدون الهلال فإذا لم تثبت الرؤية ولم يظهر الهلال قالوا: فطار فطار".

وكذلك يرتبط شهر رمضان في مصر، ببعض أنواع المأكولات والحلوى، مثل الكنافة والقطايف ولقمة القاضي، إضافة إلى مد المقتدرين "موائد الرحمن" في الشوارع والطرقات وأمام المنازل لإطعام أي فقير أو غريب أو عابر سبيل.