قصة داودية والسفير الهندي في من الكسارة إلى الوزارة

جفرا نيوز - تزامناً مع حفل التوقيع الرسمي لكتاب الوزير الأسبق ورئيس مجلس إدارة الزميلة الدستور محمد داودية كتابه "من الكسارة إلى الوزارة" نشر عدة مقتطفات من كتابه...
طلبتُ من ياني سكرتيرتي الأندونيسية، أن تحدّد لي موعداً لزيارة عدد من السفراء في جاكرتا التي وصلتها حديثاً، وهم السفراء العرب، وسفراء الصين، وأميركا، وروسيا، وهولندا، وأستراليا، والهند، وباكستان، وبريطانيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، وتركيا، واليونان، بواقع سفيرين أو ثلاثة سفراء يومياً .

في الطريق إلى السفارة الهندية، تخيّلتُ أنَّ السفير ذو شارب كثّ يلتف حول أذنيه، وأنّه يلبس قبعة السيخ التقليدية، وأنَّ في حديقة السفارة عدداً من الجواميس، وأنَّ في مكتبه مجموعةً من أفاعي الكوبرا الأليفة!!.

استقبلني شاب يضع على وجهه الابتسامة الدبلوماسية التقليدية، تفوحُ رائحة الكاري من كلماته، وقادني إلى مكتب السفير، كانت في استقبالي سيدة جميلة، في السنّ النسوي الجميل الذي أحبّه، بين أواخر الأربعينات وأواخر الخمسينات، تلبس الساري الهندي المزركش، الذي يكشف بطنها وسمارَ ذراعيها وسرّتها، قلتُ لنفسي: «لعلَّ هذه المزيونة سكرتيرة السفير أو مساعدته».
أجلستني السيدة في مكتبٍ صغيرٍ، وسألتني عن مشروبي، فطلبتُ كوباً من الأعشاب الهندية، وحدّدتُ: «أرجو أن يكون خالياً من الكاري» .افترّ ثغرُ السيدة عن ابتسامة فاحصة وقورة، قلتُ لنفسي: «لعلّني عكّيت فأثرتُ امتعاض هذه السكرتيرة المزيونة الرزينة».

شربتُ كوباً لزجاً، يشبه ماء غسيل الأيدي بعد منسف مطبوخ بلبن الشنينة، كانت السكرتيرة تسألني عن الأردن التي زارتها مع أسرتها قبل ثلاثين عاماً، واحتفظَتْ منها بذكريات طيبة، عن البحر الميت، والبترا، ورم، وواحة الأزرق، سألتها بعد أن طال انتظاري: «سيدتي.. أين هو السفير؟ لقد مضى على وصولي إلى السفارة نحو 10 دقائق». بُهِتت السيدةُ وقالت بتعجّب واستغراب: «أنا هي السفيرة!».

بُـهِـتُّ بدوري وأطلقتُ ضحكة عميقة واسعة مدوّية، ثم قلتُ: «كنت أظـنُّ أنّني سأقابل سفيراً من السيخ، محاطاً بتشكيلة من أفاعي الكوبرا مختلفة الأحجام والألوان».

اجتمع كلُّ من في السفارة على ضحكنا، ولمّا روت السفيرة لهم القصة، غرقت السفارة في المزيد من الضحك، ولاحقاً كان السفراء يطلبون مني أن أرويَ لهم ما جرى.

منذ تلك المفارقة، أصبحتُ أطلب السيرة الذاتية للسفير أو المسؤول الذي أرغب في مقابلته، وأصبحتُ أرسل إليه سيرتي الذاتية قبل أن أزوره.

زرت مدينة باندونغ التي احتضنت عام 1955 قمة عدم الانحياز بمشاركة الملك الحسين وجمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو وجوزيف تيتو. ومن ذكريات الاندونيسيين في تلك الأيام، أن الملك الحسين تخلص من الحماية المخصصة له وامتطى دراجة نارية طاف بها على مختلف أرجاء الإقليم وسط ذعر الجهات الرسمية التي خشيت ان يصيب الملك الضيف أي مكروه.
يقع في شمال اقليم باندونغ منتجع الحمامات الحارة الكبريتية البركانية «ساري أتر»، الذي كنت أقصده حين اتمكن.

 حديث السفير التونسي المرعب

يتوفّـر السفراء عامة على ثقافة عالية، وعلى حـسّ وطنيّ وقوميّ رهيف، وتظلّ قلوبهم معلقةً بأوطانهم بأقصى درجات التعلّق والاعتزاز، وممتع جداً الاستماع إلى التفاصيل التي يكنزها السفراء عن البلاد التي خدموا فيها، وعن بلدانهم وأنظمة الحكم فيها.
مما أدهشني وصدمني أنَّ عدداً من سفراء الخليج العربي، «يتفهّمون تنظيم القاعدة»، وأُوشكُ أن أقولَ إنَّهم لا يدينونها، لا باللسان ولا بالقلب، لم أسمع من أحد منهم نقداً، أو إدانةً لعمليات القاعدة الإرهابية.

السفير فيصل قويعة، سفير تونس لدى أندونيسيا، من السفراء المتميزين، وسيم وأنيق، اجتماعي ومتابع، مثابر ومثقف، نزيه ومحترم، كنّا نذهبُ كلَّ يوم سبت للاسترخاء في الساونا والجاكوزي والبخار في فندق موليا سنيان الفخم، في منطقة المثلث الذهبي (ترايل آنقل) الراقية بجاكرتا.

كان حديثه لي مرعباً مخيفاً، كنت أخاف عليه وعلى أسرته، وأرجوه: «أتوسّل إليك أخي فيصل ألّا تحكي ما تحكيه لي، أمام الآخرين». كان يحدّثني بألم عن فساد نظام الدكتاتور الطاغية، الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وعن فساد أصهاره أسرة الطرابلسي، وعن الظلم والبطش والرعب الذي يلفّ شعب تونس من أولها إلى منتهاها، ومن كبيرها إلى صغيرها .
وظلَّ يؤكّد، وصدّقت الأحداثُ على ما كان يقول: «النظام الذي يقوم على متلازمة الفساد والاستبداد، لا على ثقة الشعب ورضاه، كيف يظنُّ أنَّه سيستمرّ، ذاك نظام لا مستقبلَ له».

كنت أقول له:» لو أنَّ رأيك في نظامك السياسي وفي رئيسك الطاغية بن علي، يصل إلى الأجهزة الأمنية التونسية، لتبخّرتَ، لأجهزَتْ عليك وعلى كلّ حمولة (عشيرة) قويعة». وكان يردّ: «أنتَ ثقة يا محمد، وأنا لستُ غِــرّاً أو ثرثاراً، يجب أن أفضفض كيلا أختنقَ، وما أقوله لكَ لا أقوله لغيرك».

كان ذلك عام 2009 والرئيس بن علي يبدو أكثر صلابة من صخور قرطاج.

 السفير الليبي ينشقّ عن الطاغية القذافي

السفير المثقف الدافئ الرقيق، صلاح الدين البيشاري سفير ليبيا لدى جاكرتا، كان من أوائل السفراء الليبيين المنشقين عن نظام الدكتاتور القذافي، طلب منّي في منتصف الليل رقم هاتف مراسل الجزيرة في جاكرتا، وبعد قليل سمعته يعلن على فضائية الجزيرة انشقاقه عن النظام والتحاقه بالثورة.

أدركتُ حينها أنَّ القذافي آيل إلى السقوط، وآيةُ ذلك موقف السفير المتزن، المثقف الراقي، كريم النفس، صلاح الدين البيشاري، كنّا نذهب أنا وصلاح وسفير قطر يوسف السادة، وسفير لبنان فيكتور زمتر، للعب البلياردو أحياناً، حيث اطلعت على أحوال ليبيا من صلاح الذي كان يسمّي العقيد القذافي «المجنون»، وأنا أحـذّره وأقول له ما كنت أقوله للسفير التونسي فيصل قويعة.

لمّا انشق صلاح الدين البيشاري أبو محمد عن النظام، كان مفلساً تقريباً، أقمتُ له في منزلي حفل عشاء وداعياً، قبل مغادرته إلى بنغازي بليلة واحدة، ألقيتُ كلمةً قلتُ فيها: «أحييك سعادة السفير صلاح، فأنتَ ستلهمُ شباب ليبيا، وإنَّ انحيازك إلى ثورة الشعب الليبي العظيم، هو انحيازٌ إلى الحقّ والكرامة والحرية، وهو انحياز يرسل رسالةً إلى العالَم، أنَّ الثوار ليسوا حفنة زعران مدمنين، كما وصفهم إعلام الدكتاتور».

خلال الحفل تحدّثتُ مع عددٍ من السفراء العرب من وراء ظهر صلاح، أعلمتهم أنَّ جيوب صاحبنا خاوية، فاستعَدّوا للمساعدة، وفـوّضوني أن أحدّد المبلغ المطلوب، وأن أجمعه منهم، قلتُ لهم: «أعتقدُ أنَّ مبلغ ألف دولار من كلِّ سفير سيكون مناسباً، ويسدُّ مؤقتاً جزءاً من التزاماته، وخاصة أقساط ابنه الجامعي محمد، الذي يدرس في ماليزيا»، غمرتني مسرّةٌ لا تضاهى، وفرحة بنخوة زملائي.

اصطدمت بصديقي صلاح، رفض رفضاً قاطعاً قبول أي مساعدة، قلتُ له: «أخي صلاح المبلغ قرضٌ من إخوانك إلى أن يفرجها الله». قال: «لا تحاول يا صديقي، اشكرْ عني إخواني السفراء العرب، لقد غمروني بتضامنهم الذي مَــسّ قلبي».
في بني غازي انضمّ صلاح إلى المجلس الوطني الانتقالي فى خلية العمل الدبلوماسي للمجلس، الذي يمثّل المعارضة، وبعد انتصار الثورة ذهب صلاح سفيراً لبلاده في الصين.

 صديقي فان دام

صديقي البروفيسور نيكولاس فان دام، سفير هولندا في جاكرتا، مؤلف كتاب (الصراع على السلطة في سوريا)، خبير بارز في شؤون سوريا والشرق الأوسط، وصل إلى جزر كثيرة لم يصلها الأندونيسيون أنفسهم، فأندونيسيا تتألف من 17500جزيرة، نصفها غير مأهول، ويحدث أن ترى في المساء جزيرة في عُرض البحر، وفي الصباح تختفي فلا تراها، أو العكس.

عندما تقاعدنا في صيف عام 2012 هاتفته في منزله بجنوب إسبانيا، وأرسلت له 20 سؤالاً حول سوريا، أجابني عليها بإسهاب، أرسلتُ الإجابات إلى الكاتب الأستاذ علاء الدين أبو زينة، في صحيفة الغد، فنشرها يوم 28 آب .2012

الأحداثُ ما تزال تُثبت صحة أجوبة البروفيسور نيكولاس فان دام، التي كانت خلاصتها أنَّ الأسد لن يخسر الحرب. في عام 2017 أصدر فان دام كتاباً مهماً هو (تدمير وطن – الحرب الأهلية في سوريا)، الذي ترجمته إلى اللغة العربية، دار جنى تامر للدراسات والنشر اللبنانية.

أكّـد فان دام في كتابه على مسألتين خطيرتين تهمّان الأردن بدرجة قصوى هما:

-1 لا يوجد في الأفق حـلّ لسوريا.

-2 اللاجئون السوريون لن يعودوا إلى بلادهم إلّا لزيارة العائلة والأنسباء.

كان أحد الأسئلة الرئيسة المطروحة في الكتاب هو: هل كان يمكن تفادي الحرب الدامية في سوريا أم لا؟ وهل كان يمكن توقّعها؟ والجواب: هو أنّه ما كان يمكن تفاديها، وكان يمكن توقّعها، إلّا أنّه ما كان يمكن توقّع تأثيرات ما يُسمّى الربيع العربي والتدخّل الخارجي في الحرب السوريّة التي بدأت في .2011

استضفتُ صديقي البروفيسور فان دام برفقة السفير الهولندي في عمّان بمنزلي يوم 7 كانون الأول 2015 بحضور نخبة من الأصدقاء والسياسيين، من بينهم الدكتور ممدوح العبادي، ورياض باشا أبو كركي، والشيخ هاني الحديد، والكابتن محمد الدلابيح، والمخرج صلاح أبو هنود، وموسى الطراونة، وإبراهيم الطهراوي، ومحمد موسى المرقطن، وخالد الحسينات، ووائل شقيرات، وعاصم العابد، وحمادة فراعنة، وصدقي الفقهاء.

رأي فان دام هو أنَّ الوضع في العراق اليومَ، أفضلُ على صعيد الحريات ممّا كان أيام صدام حسين، ولكن ما معنى الحرية إذا وقع أكثر من مليون قتيل؟ ورأيه في الموضوع السوري، هو أنَّه من غير حوار واتصال بالنظام، هناك ضمان للفشل، مع أنه إذا نشأ حوار فلا ضمان للنجاح.

ظلَّ فان دام يحثُّ على اعتماد قاعدة:» إمّا أن تنتصر، أو تقبل بحلول أخرى»، ولذلك دعا إلى الحوار مع النظام، قائلاً: «إنني أفضّل التوقف عند 10 آلاف قتيل على الوصول إلى 300 ألف قتيل»، ويقول: «للأسف رفض المعارضون».
 نقد الخميني من المحرمات

أوشكتُ أن أخسرَ صديقي ع.ح سفير لبنان في جاكرتا، قلتُ له: إنَّ العالَـم الإسلامي دخل في السواد بعد نجاح ثورة آية الله الخميني عام 1979 وهي الثورة الفارسية الصفوية التي تسربلت بالشادور والعمامة السوداء.

انتفض السفير في حركة احتجاجية كأنَّه تلقى طعنة سيف، قال: «لو غيرك قالها يا سعادة السفير، لقطعتُ علاقتي معه، إذا أردت أن نظلَّ أصدقاء، فتجنّب أن تمسَّ ذكرى آية الله الخميني»، قلت: «إذن محظور علينا أن ننتقد الخميني حتى أمام رجل مثقف علماني، يعمل سفيراً لبلاده لبنان، وليس سفيراً لإيران»، وأضفتُ: «هذا تقديس»، قال: «هو كذلك». اكتشفتُ من علاقاتي بالمثقفين العراقيين الشيعة، أنَّ رأي السفير اللبناني ليس صحيحاً.