إلغاء الحدود سيسبب ميولا في الكرة الأرضية

جفرا نيوز - استيقظ نصف العالم ذات صباح ثم تبعه استيقاظ النصف الآخر بعد ساعات ليجد الجميع أن الحدود بين دول الكوكب قد أُلغيت وباتت خارطة العالم عبارة عن قارات تفصل بينها بحار ومحيطات. بات العالم قرية واحدة فعلاً لا قولاً، وواقعاً لا افتراضاً. خرجت مليارات العالم الثمانية عن بكرة أبيها من 193 قفصاً مدونة في سجلات المنظمات الأممية، إضافة إلى قفصين مقتصرين على كونهما "أقفاصاً مراقِبة" هما "الكرسي الرسولي ودولة فلسطين" وأصبح الكوكب بلا هذه الخطوط الصغيرة المتقطعة أو الموصولة التي يدرس عنها الصغار في دروس الجغرافيا، ويحافظ عليها الكبار ويصبون عليها جام غضبهم أو يتعاملون معها باعتبارها رمز وطنيتهم.

تعريفات الوطن

وإذا كان الوطن هو المكان الذي ولِد وعاش فيه الإنسان وربما مات، أو المكان والذكريات والمعارف التي يشعر بالانتماء إليها، أو حيث يشعر بالانتماء والتعلق وقائمة طويلة من التعريفات المتعلقة بمكان الولادة والمشاعر والتجارب والذكريات، فإنه كذلك قطعة الأرض التي تحيطها حدود غير مرئية في الواقع، لكنها مرسومة بكل دقة على الورق وتحافظ على صرامتها جيوش وقوات وأسلحة وعتاد. وأحياناً، تستدعي الوطنية أو حماية الأمن أو درء الخطر أو اكتساب الهيمنة أو تحقيق المصالح أو استعراض القوة، قيام وطن بالإغارة على حدود وطن آخر والقضم منها.
القضمات القوية المتتالية تسمى "إغارة"، وتلك التي "تنجح" تُسمى "احتلالاً"، وتلك التي تنجح في استعادة القضمات تسمى "تحريراً". وسواء حافظ الجميع على حدوده، أو تمت زحزحتها، أو استعادتها أو بقيت على حالها فإن كثيرين يعتقدون أن الحدود سمة من سمات بدء الخليقة.

الخليقة والحدود

لكن الحقيقة هي أن الخليقة لم تصاحب بدايتها حدود، بل صنعتها الخليقة نفسها. صحيح أنه قبل آلاف السنوات لم تكن هناك خريطة مرسومة للأرض وعليها تلك الخطوط الفاصلة بين دولة وأخرى، لكن كانت هناك فواصل تختلط فيها الجغرافيا بالعرف في مناطق هيمنة قبيلة أو قبائل عدة على مساحة ما.
تقول الباحثة في "معهد الدراسات التنموية المتقدمة" في بوليفيا تراسي لي، في بحث عنوانه "الحدود: من أين أتت وماذا تعني؟"، إنه قبل نحو 10 آلاف عام، كانت الحدود الوحيدة المعروفة للبشر هي حدود الجبال أو الغابات أو المسطحات المائية التي تفصل بين مساحة من الأرض وأخرى. ونظراً إلى العدد الصغير من الناس في مقابل الكم الكبير من الموارد الطبيعية، لم تكن هناك حاجات قصوى متتالية للمطالبة والقتال على الأرض، أو لإثبات الهيمنة لكن الأوضاع تبدلت مع مرور العقود وبدأ الناس يتكاثرون والعوامل النفسية والرغبة في إثبات القوة والسيطرة تدفع إلى القتال من أجل الحدود".

حركة مقيدة

اليوم، من أجل الحفاظ على الحدود، فإن حركة سكان الأرض محكومة بها ومقيدة بشروطها ورهن أهوائها، ربما صريعة أولوياتها. لذلك حين يستيقظ سكان الأرض ذات صباح ليجدوا أن ادعاء تامر بأنه يحب "سامنتا" وبات في حكم شريك العمر لها، ومن ثم يستحق الحصول على تصريح رسمي للم الشمل وتقريب البعيد وجلب الحبيب من جنوب المتوسط إلى شماله، وأن جهود تهريب سلع ممنوعة من دولة تسمح بالمشروبات الكحولية لأخرى تحظرها، والتقدم بطلب تأشيرة سياحية ومشاهدة معالم على الرغم من أن النية هي البحث عن فرصة عمل غير شرعية وإقامة غير قانونية لم تعد مجدية، وأن الحلم المستحيل  المرتبط بالدولة العظمى لم يعد مستحيلاً بل بات هو الممكن ذاته، وأن رغبة فلان في العيش في دولة طقسها دافئ، وأمنية علان بالانتقال إلى منطقة لا تعرف للصيف طريقاً، وأن أمل الطالب المتفوق باستكمال دراسته في دولة أخرى وأمنية الموظف بالعمل في مصلحة تقدر عمله في ثقافة مغايرة، أصبحت اختيارات تتيحها الحياة اليومية، وأن إنفاق مدخرات العمر من أجل تأمين مستقبل الأولاد عبر شراء جنسية أخرى لم يعد الاستثمار الأمثل، بل بات والعدم سواء، فإن حركة السفر والترحال والنزوح ستصبح مختلفة.

الحدود المفتوحة

خبير الاقتصاد التنموي الأميركي مايكل كليمنز حين طرح فكرة الحدود المفتوحة، أو على الأقل تخفيف القيود المفروضة على الحدود وفتح أبواب انتقال البشر من مكان لآخر، لم يكن يتحدث عن مقترح للمدينة الفاضلة أو "فانتازيا" أحلام عابرة، بل تحدث عن مضاعفة للناتج المحلي الإجمالي لدول العالم. يقول كليمنز، إن ذلك سيحدث حتماً، حيث "سيؤدي فتح الحدود حتماً إلى انتقال جماعي لعمال العالم إلى أماكن يصبحون فيها أكثر إنتاجية وأعلى دخلاً".
مصطفى بدوي (ميكانيكي سيارات) (32 سنة) سيبحث عن الدولة الأعلى دخلاً في مجال ميكانيك السيارات. هو يعمل في محل يملكه أبناء عمه. ويقول إنه حاول مراراً السفر إلى دولة عربية أو أوروبية للعمل في مهنته التي يتقنها لكن إجراءات الحصول على عقد عمل صعبة عربياً وشبه مستحيلة غربياً. ويؤكد أنه في حال فتح الحدود فسيبحث عن متوسط دخل ميكانيكي السيارات في دول العالم، ويتوجه فوراً إلى الدولة ذات المتوسط الأعلى.

الدخل والمكان

وجهة نظر كليمنز هي أن ما يحققه الشخص من دخل يتوقف على المكان الذي يعيش فيه. وهو يؤمن بأن منع الأشخاص على الحدود من دخول دولة ما، يحرم هذه الدولة من المساهمة الاقتصادية التي يُحتمل أن يشارك بها. لكن المشاركة في بناء اقتصاد الدول التي سينزح إليها البعض بعد فتح الحدود ليست بالضرورة على رأس أولويات الجميع. فهناك مَن سيتوجه إلى دولة "آمنة" فور إلغاء الحدود. دول عدة ضربها العنف والصراع المسلح سيتوجه سكانها حتماً إلى الدولة الأكثر أمناً لهم، وربما تلك التي تحمل آفاقاً مستقبلية جيدة لأنفسهم وأبنائهم. موجات الهجرة والنزوح واللجوء التي يشهدها العالم منذ بدء فجر الصراعات المسلحة تتحدث عن نفسها، ولا يبطئ من وتيرتها أو يقلل من أعدادها سوى منظومة الحدود وموانعها العديدة.

الباحثون عن الأمان

صفحات التواصل الاجتماعي بأنواعها حافلة بكل أنواع مجموعات الباحثين عن سبل للتحايل على صعوبة عبور الحدود، وذلك من قبل ملايين البشر الذين يعتبرون إلغاء الحدود خلاصهم من قدر الصراع ومغبة الاقتتال الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل. الكم المذهل من الأسئلة الموجهة لمَن عبروا وكُتبت لهم النجاة من قبل منتظري العبور والحالمين به، يشير إلى موجات نزوح مليونية من دول الصراع حال إلغاء الحدود.
إلا أن إلغاء الحدود ربما يلغي تركز الصراعات في مناطق دون غيرها فتتمدد وتتوغل في ربوع الأرض، أو قد يؤدي الإلغاء إلى زوال أسباب الصراع. فهناك وجهة نظر تشير إلى أن تجارة السلاح السرية وغير الشرعية ستصبح في خبر كان، يوم إلغاء الحدود، ومن ثم تخفت نيران الصراعات ولا يجد المتصارعون ما يقتلون به بعضهم بعضاً ويرهبون بسببه سكان الأرض. وحيث أن نسبة غير ضئيلة (يقدرها البعض بنحو النصف) من تجارة السلاح غير الشرعية تستهدف منطقة الشرق الأوسط، وحيث أن هذه المنطقة هي الأكثر احتواءً على الصراعات، فإن خفوتها ونقص أسلحتها قد يبقي على السكان في أماكنهم.

ضعف الصراعات

البعض سيبقى في مكانه نتيجةً لضعف الصراعات، الناجم عن إلغاء الحدود. لكن البعض الآخر، سواء في دول ضربتها الصراعات المسلحة أو المشكلات التعليمية والصحية والاجتماعية، سيعبر الحدود بحثاً عن أشياء أخرى.
عمليات البحث اليومي عن "أفضل جامعات العالم" لن تتوقف عند مرحلة الدق على رأس "غوغل" بل سيتبعها حجز تذكرة "ذهاب فقط" إلى حيث جامعات العالم الأفضل.

البحث عن "الأفضل"

وأغلب الظن أن كلمة "أفضل" ستهيمن على عمليات البحث العنكبوتي عقب انتشار خبر إلغاء الحدود. فكل سيبحث عن "أفضل" ما يتمناه في مجالات مختلفة. "أفضل جامعة"، "أفضل علاج للسرطان"، "أفضل مدينة لتربية الأطفال"، "أفضل قرية للتقاعد"، "أفضل مكان لممارسة الحريات الجنسية"، "أفضل شاطئ"، "أفضل شعب ملتزم دينياً"، "أفضل أخلاق"، "أفضل ملاه ليلية"، "أفضل فريق كرة قدم"، "أفضل صناعة سينما"، "أفضل جبن"، "أفضل مواد مخدرة"، "أفضل مدينة على الإطلاق"، كلها ستتعرض لموجات بحث شرسة ممن حزموا حقائبهم وينتظرون اختيار الوجهة الأفضل لهم، كل بحسب أولوياته، وكذلك بحسب ما حرم منه أو افتقده في ظل فرض الحدود.
حدود الاختيار صعبة وعمل قوائم الوجهات للاختيار منها أمر ليس باليسير. وربما يلجأ البعض إلى قوائم مُعدة سلفاً للحاق بخاصية الكوكب بلا حدود قبل إعادة فرضها. مجلة "تايم أوت" البريطانية خرجت بقائمة تحوي أفضل 37 مدينة حول العالم في نهاية عام 2021. القائمة ضمت مدناً مثل سان فرانسيسكو وكوبنهاغن وإسطنبول وبانكوك وموسكو وجوهانسبرغ ودبي وبودابست وأبو ظبي وباريس وميلانو وميامي وأمستردام وتل أبيب وغيرها. معايير الاختيار تمت على أساس إيقاع الحياة وجودة الطعام ومرافق الخدمات والترفيه والأحياء السكنية والثقافة وغيرها من العوامل التي يبحث عنها الناس عادةً.