حفيدة الشاعر إبراهيم ناجي توثق حياته في كتاب لا تنقصه الجرأة
جفرا نيوز -بعد رحلة هروب طويلة من إرث جدها لأمها، الشاعر المصري إبراهيم ناجي، وجدت الأستاذة الجامعية سامية محرز نفسها تخوض رحلة بحثية لإعادة اكتشاف وتصحيح صورة "شاعر الأطلال" عبر كتاب توثيقي شيق حمل عنوان (إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا).
الكتاب صادر عن دار الشروق بالقاهرة في 274 صفحة من القطع الكبير، وهو المؤلَّف الوحيد باللغة العربية لأستاذة الدراسات العربية والإسلامية ومديرة مركز دراسات الترجمة بالجامعة الأميركية سابقا بعد عشرات الكتب والأبحاث بالإنجليزية في مجال الأدب الحديث.
تقول المؤلفة في أول فصل بالكتاب "توفي إبراهيم ناجي في مارس (آذار) 1953، وجئت أنا إلى الدنيا في يناير (كانون الثاني) 1955. فوَّت علي موته المفاجئ المفجع فرصة اللقاء. مات تاركا جدتي سامية أرملة لم تتجاوز الأربعين من عمرها، أمَّا لثلاث بنات: أميرة وضوحية ومحاسن".
وتتابع قائلة "غزلت أمي وأختاها أساطير وأساطير حول جدي تداعت شيئا فشيئا مع تقدمي أنا في العمر. هي في الواقع ‘حواديت‘ جميلة ومدعومة دعما قويا بحواديت الكثير ممن عرفوه عن قرب شاعرا وطبيبا وإنسانا. لكن تلك الصورة الأسطورية التي رسمها الجميع باعدت بيني وبينه من فرط حجمها ورمت بظلالها على تكويني واختياراتي أو هكذا ظننت غير مدركة أن في تغييبي له ازداد هو حضورا برغم أنفي".
وعلى مدى عشرة فصول تعيد كبرى حفيدات الشاعر إبراهيم ناجي كتابة سيرة حياته منذ النشأة والطفولة وحتى الرحيل، فتسرد للقارئ دون مواربة كواليس حياته الأسرية بما فيها علاقته بزوجته وحقيقة ملهمته التي كثرت التكهنات بشأنها، كما تعمل على إعادة الاعتبار إلى أعماله الأخرى في النثر والترجمة التي تغافلها كثير من المؤرخين.
الكنز
في رحلتها لاقتفاء أثر جدها عثرت سامية محرز على كنز بكل ما تحمله الكلمة من معنى وهو دفاتر مذكراته ومسودات أعماله وأصول قصائده فحولتها الأستاذة الأكاديمية بخبرتها النقدية إلى مرجع يؤرخ لحياة إبراهيم ناجي الشخصية وفي الوقت ذاته سجل لوقائع الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين.
تقول المؤلفة عن هذا الكنز "تُرى ما الذي تخبئه هذه المظاريف التي ورثتها عن خالتي؟ وكيف سأقرأها معه؟ حتى جاء اليوم المعهود: إجازة بحثية لمدة سنة أتفرغ فيها لزيارة جدي. ويا لها من سنة! حسبتها ستأتي بالسكون والسكينة، فإذا بها وبال على العالم كله: وباء وحروب وفقد ودمار! لا يمضي يوم دون خبر بل أخبار مرعبة، مكئبة، محزنة. فأحتمي منها كلها بمجلس جدي، أنفض العالم عني وأمضي وقتي كله معه".
ولعل أبرز ما جاء في الأوراق مجموعة من 28 خطابا مؤرخة بين عامي 1928 و1929 بعضها كُتب على روشتات عيادة إبراهيم ناجي الخاصة في المنصورة والبعض الآخر مكتوب على ورق مراسلات القسم الطبي بسكك حديد مصر حيث كان يعمل، جميعها موجهة من الشاعر إلى زوجته إلا خطابا واحدة بخط يد الزوجة، استخلصت منها الحفيدة نظام النقل والبريد في مصر إبان هذه الحقبة والطراز المعماري والوضع الاقتصادي للبلاد آنذاك كما ألقت الضوء على جنس أدبي آخر في الكتابة برع جدها فيه.
لكن يظل أثمن ما تضمنه الكنز ترجمات إبراهيم ناجي لمعظم (غنائيات) أو "سونيتات" وليام شكسبير إلى العربية وهو العمل الذي تعاقد عليه بالفعل مع إحدى دور النشر لكنه لم ير النور قط، وكذلك ترجمات شعرية أخرى له عن الفرنسية إضافة إلى مؤلفاته في مجال طب الأسرة وروايته الوحيدة (زازا) التي لم يتناولها غالبية المؤرخين في توثيقهم لإنتاجه الأدبي.
الحقيقة كاملة
بخلاف المعتاد في كُتب السيرة أو المؤلفات التي تتعرض لحياة المشاهير الشخصية، اتبعت سامية محرز نهجا علميا في مشاركة القارئ لكل ما ورد بأوراق جدها فجاء كتابها زاخرا بالصور الضوئية للشخصيات والأحداث وكذلك المخطوطات التي وضعها بيده ومن بينها القصيدتان اللتان نحت منهما الشاعر أحمد رامي أبيات أغنية (الأطلال) لأم كلثوم عام 1966 بعد 13 عاما من وفاة إبراهيم ناجي، إذ إن الأغنية الشهيرة تختلف كثيرا عن قصيدة الأطلال المكونة من 134 بيتا شعريا.
كما عرضت بكل وضوح لمدى الغبن الذي شعر به إبراهيم ناجي طوال حياته بسبب انخراطه في المجال الأدبي ومعاناته من التهميش والاضطهاد في عمله كطبيب بسبب هذا وأثر ذلك على وضعه المالي حتى أنه مات مدينا واضطرت الأسرة إلى بيع مكتبته الثمينة لسداد جزء من الديون.
وفي نهاية رحلتها للتصالح مع الماضي تختتم سامية محرز كتابها قائلة "أراني أتلكأ قبل لحظة الوداع. أسبوع بأكمله أرجئ النهاية. أبدأ الكتابة ثم أتركها وأنا أعلم تماما ما أريد أن أخط، ولكنني لا أفعل. أستأنس بمجلسه، وأتلكأ كالضيف الثقيل الذي لا يريد أن يرحل لأن الرحيل سيأتي بنهاية ونس الزيارة. أمضيت سنوات عديدة أحضر لهذه اللحظة وأتخوف منها في آن".