هل بقيت أسرار في زمن وسائل التواصل الاجتماعي؟
جفرا نيوز - لطالما حافظ الناس على أسرارهم، فعُرف كاتمو الأسرار في الوظائف الرسمية لدى الملوك والسلاطين والرؤساء، وكيل المديح للصديق الذي يحفظ الأسرار، وقيل إن كل سر تعدى الشخصين شاع، وكان متلقي السر يطمئن صاحبه بقوله "سرّك في بئر عميقة". وكانت لمحاولات كشف الأسرار طرق وخطط كثيرة من قبل أجهزة الاستخبارات في كل الدول، سواء حول الجيوش الأخرى وأسلحتها أو الجهات المعارضة وتحضيراتها.
والأسرار حين تُفشى بين التجار والمصارف والشركات والأنظمة الاقتصادية، فإنها تؤدي إلى خسائر وأرباح كبرى، وهي في كل الأحوال تسفر عن نتائج وخيمة على طرف وإيجابية لطرف آخر حتى لو كان الأمر على مستوى فردي.
الأسرار قديماً
في قوانين حمورابي في بابل في القرن الـ18 قبل الميلاد، كانت عقوبة فقء العين لمن يتعمد النظر في أسرار الآخرين، ومثلها قوانين الأمانة وحفظ السر التي ميّزت الحياة الاجتماعية عند قدماء المصريين. وفي الدين الإسلامي ولدى العرب القدماء، اعتُبر حفظ الأسرار من ضمن الفضائل. بات أمراً يتعدى بتأثيراته الأفراد أنفسهم بقدر ما يؤثر في مجتمعات بأسرها.
أما كاتم السر، فهو القائم بوظيفة نشأت في بلاط الخلافة العباسية، كان يقوم بها أحد المقربين من الخليفة ويُعهد إليه بكتابة الأوامر والرسائل والمدونات الإدارية. وبحكم الوظيفة والقرب من دوائر القرار، كان المسؤول عن هذه الوظيفة قريباً من أسرار الحكم والحكام، ولهذا وُصف بكاتم السر. وتطورت وظيفة كاتم السر في دواوين الإنشاء التي تطورت بدورها في الممالك الإسلامية، وأصبحت تتطلب كثيراً من المهارات مثل تعدد اللغات اللازم للمراسلات الخارجية، ولانفتاح الممالك الإسلامية حينها على تخوم أوروبا وآسيا. وبالطبع، ما زالت وظيفة أمين السر موجودة في كل المؤسسات والشركات والجمعيات والأحزاب ولو أن الدور الذي يقوم به بات مختلفاً.
زمن وسائل التواصل الاجتماعي
في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، تبدو الأسرار في مهب الاستخدام من قبل شركات الإنترنت على اختلافها. وبات هذا الموضوع محل متابعة من قبل الجميع، الحكومات والمنظمات الدولية والمؤسسات التي تهتم بحقوق الإنسان وعلمَي النفس والاجتماع. فأن تكون معلومات المتعاملين على شبكة الإنترنت محل استخدام وملكاً لشركات حول أسرار الترميز أو التشفير إلى علمٍ معتبر، بعد أن كان قديماً مجرد فن يضفي السرية على المعلومات ويخفي البيانات.
ويُعدّ "علم التعمية" من العلوم الحديثة نسبياً، التي تقاطعت مع كثير من العلوم كالرياضيات والهندسة والبرامج الحاسوبية، وازدادت أهميته بعد ارتباطه بكثير من التطبيقات التقنية المعاصرة، بعدما كان قديماً يستخدم في مجالات محددة كحفظ المعلومات العسكرية من التجسس المضاد، وحماية مراسلات الأجهزة الحكومية. فهذا العلم ينفتح اليوم على مجالات جديدة كالاتصالات والتجارة الدولية، ليندرج في منع التجسس والقرصنة، وليساعد على تسهيل التجارة الإلكترونية.
ويُعتبر تسريب وثائق "ويكيليكس" أضخم تسريب للأسرار شهده العالم مع الصحافي والمبرمج الأسترالي جوليان أسانج. فبفضله، أصبحت "ويكيليكس" عنواناً لأشهر القضايا المتصلة بالأسرار والمعلومات والأمن القومي في عشرات من دول العالم، نظراً إلى ضخامة الوثائق السرية المعلنة وحساسيتها وتأثيراتها الكبيرة. وهناك "وثائق بنما" المسربة من شركة "موساك فونيسكا" للخدمات القانونية في بنما، وأخيراً وثائق "صندوق باندورا" التي كشفت عن الشركات الاسمية المقامة في الملاذات الضريبية لزعماء وسياسيين، على رأسهم سياسيون من لبنان، يهرّبون أموالهم من الضرائب.
الأمم المتحدة والبيانات الشخصية
ويشير تقرير للأمم المتحدة حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي إلى تغييرات إيجابية في النهج الذي نتّبعه إزاء التعليم، من خلال زيادة التركيز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتعليم المهارات الشخصية والقدرة على التكيّف، ومن خلال ضمان تمكين الناس اكتساب مهارات جديدة والارتقاء بها طوال حياتهم.
وعن مستقبل البيانات، فإن الأمم المتحدة تجد إيجابيات أيضاً في تجميع البيانات عبر الذكاء الاصطناعي، لتتبّع المشكلات وتشخيصها في مجالات الزراعة والصحة والبيئة، أو لأداء مهمات يومية مثل التعامل مع حركة المرور أو دفع الفواتير. ويمكن استخدامها للدفاع عن حقوق الإنسان وممارستها، ولكنها تستنتج أنه بالإمكان استعمال هذه البيانات لانتهاك تلك الحقوق، من خلال رصد تحركات الأشخاص ومشترياتهم ومحادثاتهم وسلوكياتهم. فالحكومات والشركات تتوافر لديها بشكل متزايد الأدوات اللازمة لاستخراج البيانات واستغلالها للأغراض المالية وغيرها. ومع ذلك، برأي تقرير الأمم المتحدة وهو واحد من تقارير كثيرة حول هذا الموضوع، ربما تصبح البيانات الشخصية مكسباً للشخص، إذا أتيحت صيغة لتنظيم ملكية البيانات الشخصية بشكل أفضل. فالتكنولوجيا التي تعمل على أساس البيانات لها القدرة على تمكين الأفراد وتحسين رفاه البشر وتعزيز الحقوق العالمية، تبعاً لنوع الحماية المتوافرة.
لكن جمعية "أكسس ناو"، الناشطة في مجال حماية البيانات الشخصية على المستوى الدولي، تجد أن وسائل التواصل الاجتماعي التي تربط ما بين قرابة نصف سكان العالم بالكامل، يمكنها أن تعزز أشكال التحيز وتزرع الفرقة، بإتاحة منبر لخطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة، أو عن طريق تضخيم أصداء هذه المعلومات. وفي رأيها، يمكن لخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي أن تعزز تجزئة المجتمعات على نطاق العالم.
ووفق هذه الجمعية، فإن أي موقع إلكتروني مجاني الاستخدام يبيع معلوماتك بوصفها منتجاً له، مثل الأسماء وتواريخ الميلاد والمواقع والعناوين والهوايات والاهتمامات. وهذا ما يمنح هذه الشركات قدراً كبيراً من البيانات حول المنتجات التي تقدم لها إعلاناً لنوعية معينة من الناس وربما أيضاً التأثير في الأفكار السياسية لأشخاص أو لمجتمعات بأكملها، وعلى سبيل المثال، اعتبار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب "تويتر" و"فيسبوك" بأنهما مارسا تأثيراً في آراء الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. هذا عدا عن أن هذه المؤسسات تضع قواعدها الخاصة بالنشر وحرية التعبير وتحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع من دون رقابة جماهيرية ولا حتى قضائية محددة، فتتمكن من وقف حسابات من تشاء ولو كان رئيس الولايات المتحدة، وهذا ما يمنحها قوة كبيرة جداً تتفوّق على قوة السلطات المنتخبة ديمقراطياً من الشعب، التي تمثل القانون والقوة في أي دولة.
وبرأي علم الاجتماع الرقمي، وهو علم مستجد، فإن جمع البيانات السلوكية والتفاعلية في مواقع التواصل الاجتماعي تستطيع جعل العملاء مدمنين عليها كطريقة فضلى لضمان مشاهدة المزيد من الإعلانات. ولهذا السبب، اتجهت مواقع الويب إلى المحتوى المثير للجدل أو حتى المحتوى غير النزيه. وعند استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، تُعدّ مشاركة موقع الشخص مهمة لهذه المواقع، ولن يمنع تعطيل مشاركة الموقع من جانب مستخدم هذه الوسائل طرقاً أخرى لمعرفة مكانه، بخاصة إذا كان يستخدم شبكات "واي-فاي" (Wi-Fi) عامة. ولكي تعمل الشبكات الاجتماعية، تحتاج إلى حقوق معينة على الصور لأنها تعيد تجميعها، وتتضمن اتفاقيات المستخدم التي يقبلها من دون تفكير الموافقة اللازمة للشركات لاستخدام الصورة والمحتوى.
اعتمد الاتحاد الأوروبي قوانين جديدة ومختلفة لحماية البيانات الشخصية على اعتبار أنها حق أساسي للفرد، ولحقته في ذلك دول عدة، لذلك تم تفعيل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) كإطار جديد لحماية هذا الحق. تمكّن هذه اللائحة الأوروبيين من استعادة السيطرة على معلوماتهم الشخصية داخل وخارج نطاق الإنترنت. ويشمل تفعيل حماية البيانات الشخصية مجموعة من الممارسات والضمانات والقواعد الملزمة قصد ضمان التحكّم فيها.
إندبندت عربية