المرونة المؤسسية في النيابات العامة ..كيف تجاوزنا اثر تفشي الوباء بمرفق العدالة ؟
جفرا نيوز - كتب - محمد قطيشات
توطئة
الحركة هي نقيض الموت ، و التغير سنة الحياة وابجدياتها. واذا لم تتقدم وتتطور وتتجدد فانك ستتقادم وستخرج من سياقات الحركة والفعل والتأثير ، الى متاهات الانتحار المعنوي والمادي والمؤسسي أيضا ..
وحتى تتمكن من الاستجابة للمتغيرات من حولك ، وتهضم التحولات المتسارعة ، فعليك ان تتمتع بدرجة عالية من المرونة والقدرة على التكيف والاستيعاب والتجدد . وهذا بطبيعة الحال ينسحب على الجماعات والمؤسسات والقطاعات. التي تحتاج جميعها الى المرونة والديناميكية لتستجيب للمتغيرات والتطورات والمفاجآت ايضا. لذلك ظهر حديثا مفهوم المرونة المؤسسية والتي تعني قدرة المؤسسة على التنبؤ والتوقع والاستجابة للمتغيرات المستمرة ، والتأقلم مع تلك المتغيرات البسيطة منها والمعقدة ، اليومية والطارئة والاستثنائية .
تأتي هذه المقدمة النظرية ، لنؤكد على مفهوم المرونة المؤسسية ، و كيف انها تعتبر من اهم معايير النجاح و الاستقرار المؤسسي ، فحالة الجمود تعني بالضرورة ان المؤسسة قد توقفت عن الاستجابة والتفاعل والاستيعاب والتجدد ، و بذلك تصبح عاجزة تماما عن تذليل العقبات وتجاوز المعيقات ، والتعامل مع المتغيرات والمستجدات..
لم ندرك اهمية هذا المفهوم الا عندما اجتاح العالم وباء كورونا؛ هذاالوباء الذي غير شكل وملامح الحياة التي نعرف ، وشكّل تحدٍ لكل البُنى المؤسسية والقطاعات الخدمية في مختلف دول العالم. وهنا اصبحت المرونة شرطا اساسيا لنجاح اي قطاع عند التعاطي مع اثار الجائحة ومتطلبات العمل في ظل الشروط والقيود التي فرضتها على مختلف القطاعات والمؤسسات والافراد .
وبحكم تجربتنا العملية تولد لدينا السؤال المتمثل بكيفية تعامل النيابات العامة - على سبيل المثال ولغايات دراسة هذه الحالة تحديدا - مع اشتراطات جائحة كورونا ؟
وكيف تعاطى قطاع العدالة مع تحدي انتشار الوباء ؟ ماذا لو اعتمدنا على دراسة هذه الحالة لنقيم ونحاكم اداء الادارة العامة الاردنية ومدى مرونتها وقدرتها على التعامل مع المتغيرات التي من هذا النوع ؟ هل نجح قطاع العدالة فعلا في التأقلم والتكيف مع اشتراطات السلامة العامة الكثيرة التي فرضتها الجائحة ، مع المحافظة على ديمومة واستمرارية اجراءات التقاضي بما يكفل تحقيق العدالة الناجزة دون المساس بمبادئ المحاكمة العادلة ؟
كان على السلطة القضائية ان تتجاوب بوقت قياسي، وتتعامل بمنتهى المهنية و الحرفية والحرص والمسؤولية مع هذا التحدي ومع هذه المتغيرات الاستثنائية ، مراعية بالوقت ذاته تدابير واشتراطات السلامة العامة في كل موقع ومرفق واجراء ..
في الحقيقة ، لقد استطاع الجهاز القضائي وبوقت قياسي سواء في المحاكم او النيابة العامة ، تذليل كافة المعيقات اللوجستية و الفنية والتقنية والتشريعية وتلك التحديات المرتبطة بالقدرات والموارد البشرية . و تمكنت الكوادر القضائية والفنية والإدارية في هذا القطاع من استيعاب الصدمة و تبني سلسلة من القرارات والاجراءات و التعديلات التي تضمن سير العدالة في حدود الممكن والمستطاع .
المرونة التي تمتعت بها قيادات هذه السلطة مكنتها من اجتياز هذا الاختبار الصعب بعلامة نجاح معقولة .
وعملية التقاضي – في المسائل الجزائية – تبدأ في النيابات العامة ،ومن خلالها يجري وضع الاطار العام للشكاوى وتصنيفها ودراسة الابعاد القانونية المتصلة بها ، وما اذا كان الفعل جرميا و يحاسب عليه القانون ، بحيث يتم تكييف الدعوى و توجيه الاتهام، وسماع الاطراف والشهود واتخاذ الاجراءات الاولية اللازمة وفق المقتضى القانوني ، وفي النيابات العامة ، يتم الاشراف على الضابطة العدلية والرقابة على مراكز الاصلاح والتأهيل واماكن التوقيف والاحتجاز بهدف صون حقوق الموقوفين والنزلاء وتلقي الشكاوى والإخبارات عن اي انتهاكات لحقوق الانسان وملاحقة مرتكبيها و تحويلهم للقضاء ، كما ان النيابة العامة تتولى تنفيذ الاحكام القضائية الصادرة في الدعاوى الجزائية، وفي النيابات العامة يبدأ كل شئ ، ومن خلالها يمكن ان تختبر درجة التجاوب و التفاعل و التكيف مع المتغيرات التي فرضها انتشار الوباء في بلادنا وعلى موجتين متتاليتين ، تسببتا في اصابة ووفاة الكثير من العاملين في هذا القطاع الحيوي والحساس رحمهم الله جميعا .
إن النيابات العامة بكوادرها الإدارية ادركت حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها في الميدان ، إذ استمرت تلك الكوادر بالعمل طوال فترة الحظر الشامل والجزئي ، و اضطر بعضٌ من تلك الكوادر للانتقال من مكاتبهم للعمل على مدار الساعة في مراكز الشرطة ، حتى يتم تسهيل الاجراءات و تجاوز عمليات التوقيف والترحيل التقليدية التي تجري في الظروف الطبيعية.
ادارة النيابات العامة وضعت استراتيجية وخطة تنفيذية للعام ٢٠٢١ ، لتطوير اعمال النيابات العامة للسنوات الخمس القادمة ،حيث تضمنت هذه الاستراتيجية ستة اهداف رئيسة ، وهي على النحو التالي :
الارتقاء بجودة ادارة الدعوى الجزائية بجميع مراحلها .
تنمية القدرات المعرفية لاعضاء النيابة العامة .
تعزيز الضمانات الكفيلة باحترام حقوق الانسان وتفعيل استخدام بدائل التوقيف .
تعزيز علاقة النيابة العامة مع الشركاء محليا و دوليا .
تطوير اجراءات تنفيذ الاحكام الجزائية والعقوبات المجتمعية .
التوسع في استخدام التكنولوجيا والخدمات الالكترونية .
ركزت النيابات العامة منذ بداية تفشي الوباء على تفعيل بدائل التوقيف واللجوء للعقوبات المجتمعية ، وذلك في القضايا الجنحوية التي لا تشكل خطورة على امن المجتمع ، حيث تم استبدال التوقيف بالكفالة ومنع السفر ، وكذلك في قضايا الشيكات و المدينين بمبالغ وصلت ل ١٠٠ الف دينار ، حيث يجري التكفيل ومنع السفر ، كما يتم استبدال التوقيف بالكفالة ومنع السفر للموقوفين بالقضايا الجنائية باستثناء الجنايات الكبرى ، واستبدال عقوبة الحبس التي تقل مدتها عن ثلاثة اشهر بالغرامة، الى جانب تطبيق العقوبات المجتمعية وعقوبة الغرامة بديلا للعقوبات السالبة للحرية ..
هذه القرارات الهامة نجحت في تخفيض عدد نزلاء مراكز الاصلاح والتأهيل من (20062) في 8/3/2020 الى (11973) في 5/10/2020، لتساهم بالمحصلة النهائية في الحد من الاكتظاظ في أماكن الاحتجاز والتوقيف ومراكز الاصلاح والتأهيل .
النيابة العامة فيدت في العام ٢٠٢٠(١١) قضية مطبوعات ونشر وفي هذه السنة لم يجر توقيف اي صحفي على ذمة هذه القضايا .
وكذلك قيدت في الفترة ما بين 1/1/2021 ولغاية 31/7/2021 قرابة ال ٢٥ قضية جرائم الكترونية ، وفيها لم يتم توقيف احد على الاطلاق .
لقد نجحت النيابات العامة في استيعاب آثار الجائحة وتذليل الصعاب التي فرضتها وتعاملت معها بمنتهى الحرفية والدقة. الأمر الذي استطاعت معه التكيف مع متطلباتها واشتراطاتها ومخاطرها، فكان للادارة المرنة في هذا المرفق الحيوي بالغ الاثر في امتصاص الصدمة ، واللجوء لخيارات وبدائل تحقق الاهداف باقل الخسائر..