التعليم في ظل الجائحة: الخير والشر بين ثنايا الجديد والتقليد

جفرا نيوز - د. منصور محمد هزايمة

بعد الإعلان عن أول إصابة بفيروس كورونا وكانت لرجل خمسيني في مدينة ووهان الصينية في شهر نوفمبر من عام (2019م)، أعلنت منظمة الصحة العالمية في بداية العام التالي عن اعتبار المرض حالة طوارئ عامة عالمية، تبعث على القلق، وفي شهر أذار من العام ذاته رفعت المنظمة درجة التصنيف من حالة الوباء إلى حالة الجائحة؛ بمعنى إنه انتشر عابرا للقارات في أرجاء واسعة من الكوكب. عندها بدأت الاغلاقات في كثير من قطاعات العمل في كثير من دول العالم، لكنّ مؤسسات التعليم الرسمية منها والخاصة تخلّت مضطرة عن النهج التقليدي، تحت وطأة إجراءات الوقاية الشديدة، ولزم ما يقارب (1.6) مليار طالب على مستوى العالم الجلوس في البيت، يتلقون شكلا جديدا من التعليم، لم يُعهد من قبل، وهو ما أطلق عليه التعليم عن بعد، أمّا من الناحية الطبية فإن مفهوم الوباء يغطي دولة أو عدة دول في إقليم محدود، لكن مفهوم الجائحة يشمل مناطق ودول كثيرة عبر العالم.
 
بدا التحول في صورة التعليم التقليدي يشبه الصدمة التي أربكت أركان العملية التعليمية وأطرافها، حد اختلاف الأدوار، أو تبادلها، أو تحميل بعض الأطراف خاصة أولياء الأمور ما يطيقونه، لكن توصيف الإصابة بالفيروس وإعلانه جائحة في أواخر العام الدراسي (2020م)، ربما انقذه بدرجة كبيرة، واعتبر الجميع أن عام (2021م) هو عام الجائحة لا محالة، ففيه زادت الإصابات والوفيات كما حالات الشفاء، مثلما فُرضت القيود على كثير من القطاعات، فتأثر العام الدراسي الجديد في كثير من دول العالم جذريا، ليتراوح العمل فيه بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد والتعليم المدمج، واليوم تقترب كثير من الدول من بدء العام الدراسي الثالث في كنف الجائحة وفي ظل توقعات بأنها ستنتهي مع بدايات العام (2022م)، لكنه توقعٌ يكتنفه الكثير من الغموض على مستوى منظمة الصحة العالمية، أو سياسات الدول الوطنية، لذلك ما زال الحديث عن انتهاء الجائحة أو إجراءات رفع القيود يقبع تماما في خانة اللايقين.
 
خضعت تجربة التعليم عن بعد باستمرار للتغذية الراجعة من مختلف أطراف العملية التعليمية، بل ومن المجتمع برمته، وقد شكّلت الأزمة العالمية مجالا واسعا لإثارة الاستكتاب والتفكير والبحث حول أفضل السبل لتحجيم الخسائر خاصة في مجال تعليم الأبناء، فكان الجهد منصبا على محاولة تقليل الفاقد التعليمي، بحيث لا يتراجع المستوى التعليمي للأبناء بصورة مقلقة.
 
تعرضت عناصر العملية التعليمية المختلفة للكثير من الملاحظة والنقد، لكن بصورة متفاوتة، فلم تحظ عملية التقييم -خاصة- بالثقة، حيث أن أداء الطالب في التقييمات لا يمكن الركون اليه من حيث أنه يعكس مستوى حقيقي خالٍ من تدخل المحاذين للطالب، لكن ما أثار قلق الأسر أكثر هو جلوس الطالب في البيت في عزلة من الأهل، وبيده جهاز الكتروني، يقوم مقام أدوات الطالب التقليدية، كما انتفى التعليم الموازي لعملية التعليم الرسمي بما يكتسبه الطالب خلاله من سلوك اجتماعي ناجم عن عملية الاختلاط بزملائه، فضلا عن فقد الطالب لمهارات الحس حركية الناجمة عن غياب العمل في المعامل والمختبرات والملاعب، مما يرتد سلبا على الطالب من النواحي الفكرية والجسمانية والاجتماعية، وما يخلفه مستقبلا في حياة الطالب الأكاديمية والعملية.
 
من رحم الأزمة وممّا أحدثته الصدمة، برز نهج حاول أن يزن الأمور بميزان الموضوعية، ومدرسة الواقعية، يرصد ما هو إيجابي في ثنايا ما هو سلبي، ويحاول أن يغربل الزوان من القمح، فمن ذلك أن الطلاب أصبحوا ملمين بوسائل التقنية الحديثة، ليسخرّوها بما هو مفيد، بل وألزمت الأهل بمحاولة التعرف إلى هذه الوسائل الحديثة بتغيير القناعة حتى ولو بأسلوب الصدمة، وتم تجاوز إشكالات الأعداد الكبيرة في الصفوف، وأغنت عن الحضور اليومي، وزحمة الطرقات، وأوجدت أشكالا مختلفة من المناهج تتجاوز الكتاب المدرسي، كما طورت من وسائل التواصل غير التقليدية بين الطالب والمعلم.
 
تُعد تجربة التعليم المدمج والتعليم عن بعد بأنها بعدٌ أصيل في عملية التعليم، فلا تحسب على الأزمة ومحدثاتها تزول بزوالها، بقدر ما تعتبر إضافة جديرة بالإمساك بها، والبناء عليها، وهي بعيدة من تجارب الدبلوماسيات الوليدة المرتبطة بالأزمات وتنتهي معها، بل إن العمل على تعظيم الإيجابيات، وتقليص السلبيات والحد منها، والعمل على التقييم المستمر، قد ينقي العمل التربوي التعليمي ممّا علق به من شوائب ليحلق به إلى آفاق أرحب، بحيث يفيد الإنسان من مخرجات الجائحة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولتستمر إرادة التغيير في صنع التقدم المنشود.
 
الدوحة - قطر