هل أنزل الموبايل ساعة اليد عن "عرش الوقت"؟

جفرا نيوز - لم يكن يعرف أو حتى يحلم الرسام الإسباني سلفادور دالي عندما رسم لوحته الشهيرة "إصرار الذاكرة"  ، أن الساعة ستقطع في أقل من مائة عام أشواطاً كبيرة، وسيتغير شكلها وموقعها وتقنياتها بشكل متسارع، يوازي آلاف الأعوام التي احتاجتها سابقاً لتكون ساعة بعقارب، فلوحته تظهر أربع ساعات ذائبة في صحراء خالية، والتي قصد فيها التعبير عن "صورة مرسومة يدوياً للأحلام".
وتبقى ربما هذه اللوحة بخيالها وسرياليتها الأشهر عالمياً التي تحتوي على ساعات، على الرغم من أن البعض فسر أن قصد دالي منها يتعلق بنظرية ألبرت أينشتاين النسبية التي كانت حديثة حينها، وأن دالي قصد أن عالم ما بعد أينشتاين أصبحت فيه الآلات البسيطة كالساعة تعد بدائية وغير ذي فائدة، على الرغم من أن لهذه اللوحة تفسيرات كثيرة أخرى.

هكذا قطعت الساعة الزمن

وما إن نذكر عبارة ساعة، هذه الآلة البسيطة، حتى يتبادر إلى الذهن دوماً عقربان يلتقيان ويفترقان، ودوران لا متناه في دوامة تختلف إطاراتها وأشكالها، وإشارة إلى الوقت الذي يمر.

قد تعد حركة العقربين وتكتكاتهما إسقاطاً موفقاً لنبضات القلب، وعليه لطالما ظن البعض أن ساعات اليد القديمة تعتمد في حركتها على النبض، وبالتالي عندما يموت صاحب الساعة يتوقف قلبها معه.

وعلى الرغم من أن الساعة وتقسيمها الستيني يعود إلى الحضارات القديمة مثل السومرية والبابلية والأكادية، فقد كان لكل عصر ساعته من مراقبة الظل ومتابعة النجوم مروراً بالساعة الشمسية والمائية والرملية والبندولية وصولاً إلى الميكانيكية والرقمية والذكية.

في أواخر القرن الـ 16 ظهرت ساعة الجيب وتمت تغطيتها بزجاجة لحمايتها، وصمم منها أشكال عدة ودخلت عالم الإكسسوارات والمجوهرات، وبعدها حمل العام 1574 صناعة أول ساعة يد.

وبدأت تتطور تدريجياً وتحسنت في الدقة والشكل والميزات حتى وصل العام 1770 فاخترع لويس بيريليت أول ساعة آلية ذاتية التعبئة، وفي العام 1868 جعل باتيك فيليب الساعة المحمولة سواراً نسائياً كالمجوهرات.

كانت الساعات حتى القرن الـ 19 حكراً على طبقات الأغنياء إلى أن ازدهرت صناعة الساعات من المواد الرخيصة في ولايتي ماساشوستس وكونيتيكت الأميركيتين، وصارت ساعات الجيب بمتناول الجميع، ووضعت النساء ساعات المعصم، أما الرجال فاعتمدوا أولاً ساعات الجيب، إلى أن صمم لويس كارتييه ساعة معصم لطيار ليستخدمها في رحلاته الجوية عام 1904.

وخلال الحرب العالمية الأولى استبدلت ساعة الجيب للجنود بساعة اليد لأنها عملية أكثر وتبقي اليد حرة لاستخدام السلاح، وسميت حينها "ساعات الخندق". كذلك استخدمت ساعات اليد المضيئة غير قابلة للكسر وأصبح الناس يقتنونها بشكل فردي.

لماذا في اليد اليسرى

في حين يعتقد البعض أن الساعة كانت توضع في اليد اليسرى لأنها تعمل على النبض، وهو اعتقاد خاطئ، إلا أن السبب الرئيس هو لأن الساعة كانت تحتاج إلى تدوير أو تعبئة يدوياً، ولأن أكثرية الناس يستخدمون اليد اليمنى في قضاء أمورهم وأعمالهم، كان من السهل وضع الساعة في اليد الأخرى، وبقيت هذه العادة بعد أن أصبحت الساعة أتوماتيكية ولا تحتاج لشحن يدوي، وعلى الرغم من ذلك نجد العديد يفضلون وضعها في اليد اليمنى كسراً للنمطية، وليس بالضرورة أن يكونوا "عسراويين" أي يعتمدون على اليد اليسرى.

ولصناعة الساعات ودقتها وأجزائها المتناهية الصغر تاريخ من الجهد يجتمع فيه الفن والهندسة والإبداع والدقة، وتعتبر الساعات السويسرية والألمانية من أفخر أنواع الساعات وأكثرها رواجاً وشهرة، سواء أكانت ساعات حائط أو ساعات يد، إذ تصنع يدوياً بآلات دقيقة جداً، ولا زالت تحمل قيمة خاصة بسبب الجهد البشري والإتقان الشديد في صناعتها وتزيينها.

وعلى الرغم من أن أول ساعة رقمية صنعها وطورها المهندس البريطاني توماس بروملي عام 1961 منزلياً، وبيعت في مزاد علني، إلا أن اليابانيين استفادوا من تجربته وعدم تجديد براءة اختراعه، ليكتسحوا سوق الساعات عام 1983 بساعة "كاسيو" الرقمية العملية رخيصة الثمن، والتي حققت انتشاراً واسعاً في العالم، ومع الوقت أنتجت أنواعاً عدة من ساعات "كاسيو" العملية والفاخرة والمزودة بالكاميرات، والتي تعمل على الطاقة الشمسية وسواها من الميزات مثل البوصلة، وصولاً إلى الساعات الرقمية الحديثة والذكية.

ولكن ما لبثت أن ارتبطت ساعة "كاسيوF91W" بالإرهاب، وذلك حين وضعها ابن لادن في يده وعدد كبير من معتقلي غوانتانامو، ويُظن أن هذه الساعة يمكن استخدامها كمؤقت للقنابل.

الساعات الذكية

جاءت ساعات اليد الذكية نتيجة للتقنيات الذكية التي انتشرت مع توفر الإنترنت بشكل واسع، وصنعت أول ساعة عام 1997، وكانت سعة ذاكرتها صغيرة، أما الآن فباتت كالهاتف النقال تحوي معظم ميزاته وتطبيقاته، وتتنافس شركات الهواتف الذكية على وضع ميزات أكبر وأشمل مع أشكال مختلفة تناسب أذواق الجميع.

"موبايل" أم ساعة؟

كل هذا التاريخ لم يشفع للساعة بالبقاء على عرش الوقت، بل أصبحت بتاريخها رقماً في زاوية الهاتف الخليوي، فهل استغنى الناس عن ساعات اليد التي قطعت زمناً لا يستهان به واختصروا وقتهم بالنظر إلى ساعة "الموبايل"؟

تقول رنا توما، "لو كان الأمر كذلك لما عمدت بعض شركات الهواتف الخليوية لإنتاج ساعات مرافقة لهواتفهم النقالة"، وتقول إن معظم أصدقائها اقتنوا هذا النوع من الساعات، ولكنها لا تدري لماذا تخلوا عنها لاحقاً، ربما "لأنه لا ينقصنا أن نفكر بقطعة أخرى تحتاج للشحن دائماً، يكفينا هم شحن الموبايل". ورنا لم تستغن عن ساعة اليد كلياً، لكنها لم تعد تشعر بالضياع إذا نسيت أن تضعها، لأن الموبايل سيؤمن لها خدمة معرفة الوقت.

وفي سياق متصل، يخبر وسيم الخطيب عن علاقة قديمة يومية بالساعات، فلديه عدد لا بأس به من ساعات اليد التي يجمعها ويحافظ عليها، ومنذ طفولته يضع الساعة في اليد اليمنى.

و"الموبايل" لم يؤثر أبداً في ساعة اليد لديه، وهو دائماً ينظر إلى الساعة لمعرفة الوقت والتاريخ، ولأنها تندرج ضمن أدوات الزينة فإنه يضع الساعة بحسب زيه من الشكل واللون ما بين الـ "كاجوال" والرسمي والمناسبات، وتلعب الموضة دوراً في اختياره لساعاته، كما يرفقها في اليد الثانية بسوار يتناسب معها.

العلاقة بالساعة

ومثله شقيقه آدون الذي يعتبر الساعة جزءاً من الأناقة، وهو يضع واحدة فضية مع اللباس الرسمي، وجلدية مع اللباس اليومي، ومموهة أثناء المغامرات في الطبيعة، أما ساعات الـ "ديجيتال" فيعتبر أنها لا تليق أبداً باللباس الرسمي، ولم تعجبه كثيراً الساعات الذكية لأنها تحتاج إلى شحن دائم.

جل ما يزعجه في ساعة اليد كونه يضعها بالمعصم الأيسر أنها تتلقف أشعة الشمس أثناء قيادة السيارة، فتسمر يده ويبقى مكان الساعة فاتح اللون.

وتقول ربى سماحة إنها استغنت عن الساعة كلياً، وإن الجيل القادم لن يكون على علاقة جيدة بالساعات، فولداها 12 و14 عاماً ليس لديهما ساعات يد ولا يهمهما الأمر مطلقاً، ويعتبرانها قطعة إضافية لا حاجة إليها.

ناي قبلان من جهتها تقول إنها تخلصت من عبء ساعة اليد مع وجود الموبايل، وتخلصت بالتالي من أحكام الناس حول إمكاناتها المادية التي تظهرها ساعات اليد. "قبل الموبايل كان لدي صديقة تبدل ساعاتها الثمينة بحسب ثيابها وحذائها وحزامها وحقيبتها، كانت تشعرني دائماً أنني تقليدية، لأنني أضع ساعة واحدة كانت برأيي مناسبة لكل المناسبات". لم تشتر ناي ساعة منذ أكثر من خمس سنوات، لكنها تعترف أن هدية ساعة اليد أسهل هدية يمكن أن تختارها لرجل.

ومثلها أمال الجوهري تعتبر أنها تخلصت من مصروف كبير وهو ثمن الساعات، كما أنها لا تطيق وضع ساعة طوال الوقت، بل تضعها لزوم الزينة، وتنزعها أول وصولها إلى المنزل، وتحب أمال الساعات العملية والمقبولة الثمن، وغالباً ما تشتري ساعاتها وساعات زوجها المتشابهة، لكن مصيرها في أكثر الأحيان يكون في درج منسي.

ويتحدث حسن إسبر الذي ما زال يحتفظ بساعة جيب جده القديمة، ويقول إنه كان يخبره أنه رفض وضع ساعة اليد، وكان يفتخر بساعته ذات السلسة الطويلة التي يضعها في جيبه مظهراً سلسلتها الفضية بشكل أنيق ومتباه في آن، وكان يعبئها "يدير الزنبرك لتبقى تعمل مثلما نشحن هواتفنا اليوم". يقول إن جده لم يستطع فهم الساعة بأرقام الـ "ديجيتال"، وكان يعتبرها لعبة للأطفال ولم يأخذها يوماً على محمل الجد.

من جهته، ليس لدى حسن علاقة مميزة بالساعات، يختارها "مرتبة، سبور شيك، سوداء أو بنية صالحة لكل المناسبات ومتينة"، فهو يشتري ساعة واحدة كل عدة سنوات. يقول، "لقد قضى الموبايل على ساعة اليد تماماً، وهي في طور الانقراض مثلها مثل الجرائد الورقية والرسائل، فالهواتف الذكية اختصرت عوالمنا الماضية كلها وحلت مكانها جميعاً، إذ نستطيع أن نكتب ونصور ونتلقى بريدنا ونعمل ونتاجر ونتواصل ونلعب ونشاهد البرامج والفيديوهات، وليست ساعة اليد سوى أمر بسيط يضاف إلى لائحة الزوال في العالم الذكي".