وداعاً.. غابو ومرسيدس!
جفرا نيوز - د. زيد حمزة
شعور آخر مختلف تحسّ به حين تصغي لتلاوة كتابٍ «صوتيٍّ» على الانترنت، فما بالك والراوي هو المؤلف نفسه يمس شغافَ قلبك بنبرة مفعمة بعاطفة تلمس صدقها في حديثه المسترسل عن سنوات من العمر ممتدة في كنف أمه مرسيدس وأبيه غابو وهما -كأي زوجين عاقلين- يغرقان في الحب طوراً ثم يطفوان على سطح الاحزان والخلافات طوراً آخر حتى الوصول الى رشد التفاهم والاحترام المتبادل لخصوصية كل منهما حفاظاً على تماسك عائلي بقي حتى النهاية وارف الظل، ثم تهتز أسىً حين تعرف ان الابن كان يجزع أحياناً ووالده يناشده بضراعة المتوجع وقد بانت عليه بوادر فقدان الذاكرة: أرجوك يا ولدي.. ساعدني! ناهيك عن وصفه لرهبة الأيام والساعات الاخيرة في المنزل الذي كان يغص بالأقربين من والده العظيم غابرييل غارسيا ماركيز وهو يرحل عن هذه الدنيا التي ملأها سحراً وبهجة ودهشة قبل ان تنطفئ شموع حياته الباهرة.. الى الأبد!
لقد قضيت ساعتين ونصف الساعة، بلا انقطاع الا لدقائق اضطرارية، وأنا أنصت لرودريغو غارسيا يقرأ كتابه «وداعاً غابو ومرسيدس»، محاولاً من كل قلبه ان يحيي ذكرى أمِّه وأبيه، بلغة إنجليزية متمكنة وبلهجة الخبير في الالقاء كمخرج سينمائي وتلفزيوني جادٍّ ومُجيد، مع ثقة بالنفس عالية حد الاعتراف فيما بعد بان الفضل في الرواج المتوقع لكتابه سوف لن يعود اليه بل الى السمعة التي تمتع بها والده كروائي عالمي فذّ أدخل على فن الرواية أسلوباً فريداً فاستحق عليها جائزة نوبل للآداب.
تقتضيني أمانة الكتابة أن أُقرّ بأن تجربتي مع «الكتاب السمعي» او «الصوتي» عبر الانترنت ليست غنية فهي لا تتعدى عدداً محدوداً منه، كما أنها ليست قديمة إذ تعود فقط لبضع سنوات خلت يوم أذهلني لأول مرة الاصغاء اثناء رحلة بالسيارة مع أصدقاء على الطريق الطويل الممتد من جنوب ولاية نيو مكسيكو حتى أقصى شمالها، لرواية طويلة للكاتبة التشيلية الرائعة إيزابيل أليندي بعنوان «آنيس آنيس يا..روحي» تسردها راوية محترفة بارعة الأداء استطاعت على مدى أربع عشرة ساعة متقمصةً ارواح وأصوات شخوص الرواية المختلفة ان تشنف آذاننا وتجسد في خيالنا أحداثاً ومشاهد لا يمكن ان تؤدّى الا من خلال عمل مسرحي متقن ومؤثر.
وبعد.. لست هنا لأروّج لهذا النوع الجديد من الكتب غير الورقية، بل لكي أعطيها نصيبها العادل المُقْسِط من اعجابي المقرون باستمتاعي، لكنْ في نفس الوقت دونما تحامل على الكتاب الورقي الذي قضيت عمري في احضانه الدافئة ناهلاً من ينابيعه التي لا تنضب، فلكل من النوعين في نظري طعمُه المميز ونكهتُه الفريدة وقدرتُه على تحقيق الهدف المبتغى، طالما ظلت مادته قيّمةً تحظى بمضمون يثري العقل ويثلج الصدر ويهز الأعطاف، وسيبقى الاثنان، كما أتمنى رفيقين لفترة طويلة قادمة من الزمن الى أن تدهشنا تكنولوجيا السلام لا الحرب مرة اخرى واخرى بما هو جديد مفيد.. ومُبْهر!