الموظف العام: بين ممارسة العمل السياسي ومبدأ الحياد الوظيفي
.
جفرا نيوز- كتب: نوفان العجارمة
بيّن جلالة الملك في ورقته النقاشية الثانية متطلبات التحول الديمقراطي الناجح، حيث اشار جلالته بان الوصول إلى نظام الحكومات البرلمانية الشامل يعتمد على ثلاث متطلبات أساسية ترتكز على الخبرة المتراكمة والأداء الفاعل، مبينناً بان على الجهاز الحكومي تطوير عمله على أسس من المهنية والحياد، بعيدا عن تسيس العمل و تقديم الخدمات العامة.
ويعرف هذا المبدأ في القانون الاداري وعلم الادارة العامة بمبدأ الحياد الوظيفي أي فصل السياسة عن الإدارة بهدف تحييد الإدارة العامة وتأكيد طابعها التنفيذي وتجريدها من الطابع السياسي، على الرغم من وجود رابطة قوية بين النشاط الإداري والنشاط السياسي نتيجة للتداخل الكامل ما بين جهاز التقرير(اي من يقرر) الممثل في الحكومة وما بين جهاز التنفيذ الممثل في الإدارة العامة.
وتعتبر الوظيفة العامة الشريان الحيوي لتحقيق أهداف المجتمع والنهوض بمستواه في كافة ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لا فرق في ذلك بين مجتمعات متقدمة وأخرى نامية، خاصة بعد انتهاج سياسة التدخل ومن ثم تغير دور الدولة من مجرد الدفاع عن أمن الوطن من الخارج والداخل وإقامة العدل بين الناس إلى تحقيق رفاهية المواطنين وتغلغلها بالتالي في صميم النشاطات الخاصة.
فهؤلاء الموظفون أو العاملون يشكلون بحق الطاقة الفعالة أو القوة المحركة للإدارة في مباشرة نشاطها، والقيام بواجباتها تحقيقاً للسياسة العامة للدولة؛ إذ مهما بلغت الدقة في تنظيم تلك الإدارة أو مهما بلغ الاهتمام بتزويدها بالإمكانيات المادية اللازمة، فإن نجاحها يتوقف دون شك على مدى قدرة العاملين بها على أداء رسالتها والنهوض بمسئوليتها، فالموظف العام عقل الدولة المفكر وساعدها المنفذ.
لقد القى المشرع الدستوري وكذلك المشرع العادي مهمة رسم السياسة العامة على عاتق السلطة التنفيذية، أو بمعنى آخر من اختصاص الحكومة أو مجلس الوزراء في النظام البرلماني، وبنفس الوقت تتولى هذه السلطة مرحلة التنفيذ الإداري، من خلال ترجمة القوانين إلى أفعال أو تطبيقها حسب تقدير المشرع، وهنا تتوقف كفاءة الإدارة على مدى الدقة والحياد والنزاهة في التطبيق التي تلازم القائم على عملية التنفيذ الا وهو الموظف العام.
وإزاء هذه الحقيقة، فإننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل الصلة القوية ما بين جهاز السياسة والذي يقوم بتحديد أهداف الدولة ورسم السياسة العامة فيها، وما بين جهاز الإدارة الذي يقوم بعملية التنفيذ لهذه الأهداف، فكلاهما جزء من كل وهو السلطة التنفيذية ، ويجب أن يأتي التنفيذ مطابقاً للسياسة ، وهو ما يؤكد ضرورة توفر الولاء الوظيفي لدى الموظف العام .
وتأكيداً للرغبة في فصل السياسة عن الإدارة، لابد من التمييز - في نطاق الجهاز الحكومي- ما بين رجال السياسة ورجال الإدارة، فرجال السياسة يؤثرون ويتأثرون بالأحوال السياسية في الدولة، أما رجال الإدارة فهم منقطعون للخدمة العامة كموظفين دائمين، ويجب أن يبتعدوا عن المتغيرات السياسية، ويضمن لهم الاستقرار الذي يحقق استمرار العمل الإداري العام واستقراره ، ولهذا تم تطبيق بمبدأ تحييد الموظف العام او ما يعرف بمبدأ الحياد الوظيفي .
والواقع الذي نلمسه أن الارتباط وثيق بين الإدارة العامة والسياسة ، ولا يمكن تحصين الإدارة ضد عدوى السياسة ، فكل شيء في الجهاز التنفيذي سياسي ، والأحزاب السياسية والرأي العام والأفراد كلهم يتنافسون في الهيمنة على الحكومة ، كما يتنافسون للحصول على خدماتها ، وأصبح من الصعوبة بمكان على أي إداري أن يجلس هادئاً بعيداً عن هذا الصراع ، ولهذا نجد من ناحية أخرى أن دور رجال الإدارة في المجتمع المعاصر أصبح لا يقتصر على إدارة برامج أعماله ، بل إنه يراعي دائماً أن يكسب تأييد الجهة التشريعية وتأييد مرؤوسيه ويحاول الحصول على رضاء الهيئات الحكومية الأخرى ، فضلاً عن تأييد ورضاء الجمهور.
ومما لا شك فيه أن هناك مبرر قوي لاهتمام الأحزاب السياسية بالإدارة، إذ أن النجاح في تنفيذ برنامج بالذات يساعد على تقوية فرصة إعادة انتخاب مرشحي الحزب في المستقبل وعلى العكس فإن الفشل يضعف من هذه الفرصة أو يؤثر فيها .ولهذا فإن رسم سياسة إدارية معينة والعمل على تنفيذها يعدان من الأمور المتكاملة التي يهتم بها الحزب السياسي الحاكم ، كما يهتم بها الحزب السياسي المعارض الذي يجد في مظاهر الفشل أو التراخي فرصاً لتوجيه النقد أو الهجوم على الحزب الحاكم .
ولهذا نجد محاولات من الأحزاب السياسية للهيمنة على الوظائف الإدارية بتمكين أنصار الحزب من شغل هذه الوظائف لضمان ولاء هؤلاء الأنصار وإخلاصهم لأهداف الحزب، كما أن منح هذه الوظائف إياهم يعد بمثابة مكافأة من الحزب الحاكم لأنصاره نظير تأييدهم في عملية الانتخابات.
وقد كان لهذه الحقيقة أثرها في إفساد الجهاز الإداري في كثير من الدول، و لذلك عني فقهاء القانون و رجال الإدارة العامة بتقرير مبدأً أساسياً لا بد من اتباعه في جميع حالات الإصلاح الوظيفي، ألا وهو مبدأ الحياد في أداء الخدمة العامة، حتى يضمن دائماً تحقيق التعاون ما بين الموظف العام والحكومة القائمة أياً كانت ميلوها أو انتمائها السياسي.
وتبدو أهمية مبدا الحياد الوظيفي بصفة خاصة في البلاد التي تتعدد فيها الأحزاب السياسية، حتى يتمكن الموظف من تنفيذ السياسة التي تضعها الحكومة دون أن يتأثر بولائه السياسي إن كان ينتمي إلى الحزب المعارض، وبهذا تحتم مبادئ الإصلاح الاداري ألا يُدخل الموظف السياسة ومؤثراتها في عمله، لأنه إن فعل ذلك، اصبح غير محايد وبالتالي غير أهل للخدمة العامة .
وتتبنى دول العام ثلاثة مذاهب بشأن الحياد الوظيفي و اشتغال الموظف العام بالسياسية ، فالبعض يوجب على الموظف ابتداء الانخراط بحزب سياسي معين حتى يتقلد المنصب العام وهذا معمول به في الانظمة الشمولية ، و البعض يحظر على الموظف العام الانتساب لأي حزب سياسي نزولا عند مبدا عدم تسيس الوظيفة العامة وهذا كان معمولا به في الاردن قبل عام 1993 ، اما الاتجاه الاخير من الدول فيترك الحرية للموظف في الانتساب او عدم الانتساب لأي حزب سياسي كما هو الحال في الاردن حاليا ، فلا يشترط المشرع في الموظف ولاء مسبقا لفكر سياسي معين حتى يلتحق بالوظيفية العامة، ويُسمح لهذا الموظف الاعلان عن آرائه السياسية ومباشرة نشاطه السياسي .
ان ترك الحرية للموظف العام في مباشرة حقوقه السياسية يوجب على هذا الموظف بالضرورة الالتزام بالحياد والتجرد في اداء عمله فالوظيفة العامة مسؤولية وأمانة لخدمة المواطن والمجتمع تحكمها وتوجه مسيرتها القيم الدينية والوطنية والإنسانية وتحرص على إرساء معايير وقواعد ومبادئ أخلاقية تحكم آداب الوظيفة العامة وقيم ثقافية مهنية عالية لدى موظفي الخدمة المدنية، وتبني حالة من الاحترام والتقدير لدورها في توفير الخدمات بأفضل طريقة ممكنة للمواطن والمجتمع على حد سواء ، ومن أجل تحقيق ذلك فإن على الموظف الالتزام بمعاملة الجمهور بلباقة وكياسة، وعلى أساس من الحيادية والتجرد والموضوعية والعدالة دون تمييز بينهم على أساس الجنس أو العرق أو المعتقدات الدينية أو أي شكل من أشكال التمييز( المادة 68 من نظام الخدمة المدنية رقم 9 لسنة 2020)، لذلك حظر نظام الخدمة المدنية على الموظف العام وتحت طائلة المسؤولية التأديبية استغلال وظيفته لخدمة أغراض أو أهداف أو مصالح حزبية أو استغلال وظيفته لخدمة أي طرف ليس له حق بها.
ومع ان الانضمام الى الاحزاب السياسية حق كفله القانون كقاعدة عامة، الا ان المشرع وضع استثناءً على هذه القاعدة حيث حظر على بعض الموظفين الاعلان عن اراءهم السياسية او الانضمام الى الاحزاب السياسية كالعسكريين والقضاة نظرا للطبيعة الخاصة لوظائفهم، كما حظر قانون الانتخاب وقانون الهيئة المستقلة للانتخاب على موظفي الحكومة القيام بالدعاية الانتخابية لصالح أي من المرشحين في أماكن عملهم، كما يحظر استخدام أي من الوسائل والموجودات المملوكة لهذه المؤسسات في الدعاية الانتخابية لأي مرشح.
واخيرا ، يمكننا القول بانه لا يمكن تحقيق سيادة القانون إلا بوجود الرقابة البرلمانية على العمل العام باعتبارها عنصراً مهما وأساسيا للرقابة السياسية ،وهذه الرقابة تأخذ أهميتها في ظل نظام تعدد الأحزاب حيث يستطيع الحزب المعارض أن يكشف أخطاء الحزب الحاكم ، وهو ما يدفع هذا الأخير إلى تجنب الوقوع في الخطأ خشية فقدان مكانه في السلطة. وهذا لا يتأتى إلا بوجود أحزاب قوية ذات برامج متباينة ، فقد أثبت التجارب العالمية أن حرية الرأي لا تتحقق في ظل التنظيم السياسي الواحد عن طريق النقد الذاتي ، ذلك أن الفرد منفرداً لا يكون لرأيه أثر في الشؤون العامة ، وحرية الكلمة بمعناها الحقيقي لا تتحقق إلا بكفالة حرية الرأي المعارض .
و بقطع النظر عما ستصل إليه التجربة الحزبية في الاردن، فالأمر الذي يهمنا في هذا المقام هو ضرورة العمل على حماية الإدارة العامة من المؤثرات السياسية، بحيث يتعين العودة إلى الفصل بين العمل السياسي والعمل الإداري لينقطع الموظف العام لخدمة إدارته بعيداً عن أي دوافع أو أطماع يفتحها أمامه انتماؤه الحزبي.