عن توجيهي أيام زمان..

جفرا نيوز - المهندس عادل بصبوص
 
أثار الصخب الذي أعقب "موقعة الفيزياء" في امتحان الثانوية العامة، والأصوات العالية التي صبت جام غضبها على وزير التربية والتعليم وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن تلك "المجزرة" بمن فيهم الوزير نفسه، شجوناً وذكريات ارتبطت بامتحان التوجيهي الذي قدمته وأبناء جيلي قبل ما يزيد عن أربعة عقود ونصف العقد، عندما كان ذلك الامتحان مهاباً صارماً ومقدساً، ينتظره الطلاب وأهاليهم بفارغ الصبر ليس كجسر وقنطرة عبور إلى الجامعة وحسب، وانما كتتويج لمرحلة تعليمية مهمة، قد تفضي مباشرة الى الوظيفة وسوق العمل، فكثير من الخريجين والخريجات كانوا بعد اجتيازه ينتقلون من مقعد الدراسة إلى غرف المعلمين مدرسين ومدرسات، وكم من طالبة توجهت إلى السعودية بعد اجتيازها الامتحان مصطحبة أباها أو أخاها مَحْرَماً لتعمل مُدَرِسَةً ولتحقق نقلة نوعية في حياة أسرتها، يومها لم يكن موسم التنزيلات بل التنازلات التي تمس مكانة التوجيهي وهيبته قد بدأ بعد، أمتحان يقدم مرة واحدة ومن يخفق في مادة واحدة يرسب في الامتحان كله ويعيده كاملاً، لا مجال لتقسيط مواد الامتحان على سنتين أو ثلاث سنوات

لم يكن الامتحان سهلاً أو بسيطاً، بيد أنه لم يكن أيضاً قضية أو هماً وطنياً، كان أداة لقياس قدرات الطلاب وتحصيلهم، ولم يكن كابوساً يتحسب من قدومه الجميع بدءاً بالطالب وأسرته وانتهاءاً بوزير التربية الذي قد يطيح برأسه، إن لم تنسجم نتائجه مع معايير وأسس العامة ومتصفحي وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن يومها سوقاً للتجارة ولا وسيلة للاستغلال والتربح، فلا مراكز ثقافية ولا دروس خصوصية يحدد وقتها بالدقائق والثواني وأجرة الواحد منها بدنانير كثيرة، كان التركيز على التحصيل أما الامتحان فتحصيل حاصل، قبل أن تنقلب المعادلة وتصبح الغاية الرئيسية كيف نجتاز الامتحان 

سقى الله تلك الأيام، عندما كانت نوعية المخرجات التعليمية تفوق بدرجات ما نشهده الآن وكانت وزارة التربية والتعليم يقودها وزراء من أمثال ذوقان الهندواي واسحق الفرحان ومحمد نوري شفيق ووكلاء وزارات من قماشة حكمت الساكت وأحمد العقايلة، وكان حملة درجة الدكتوراة فيها يعدون على أصابع اليد، قبل أن نغرق في موجات الحداثة والتطوير، وتضيق ردهات وزارة التربية ومكاتبها بحملة الألقاب والشهادات العليا، ويصبح للوزارة أمينين عامين اثنين والكثير من المساعدين، لم يكن لدينا نقابة للمعلمين ولا أكاديميات لتدريب المعلمين ولا مناهج "متطورة" ولا شهادات ودورات في أساليب القياس والتقويم، كان لدينا فقط معلمون منتمون تكفيهم رواتبهم للعيش بكرامة، كانت غرف الصفوف بالنسبة لهم محاريب للعلم والعطاء ولم تكن محطات ترويج للحصص والدروس الخصوصية 

"تطور" التوجيهي كثيراً ومع تطوره ضاعت الهيبة واهتزت المكانة وانحرفت البوصلة، واحتار ربابنة وزارة التربية وملاحوها كيف السبيل إلى الوصول إلى امتحان يرضي الجميع، لا هو بالصعب الذي يغضب الطلبة وأهليهم، ولا هو بالسهل الذي يفرز معدلات مرتفعة تثير السخرية والتندر وتُعْجِز الجامعات عن توفير المقاعد الجامعية لحامليها، وفاتهم أن المشكلة لا تكمن في الامتحان بحد ذاته وإنما في العملية التعليمية برمتها التي تراجعت كثيراً، وأن الحل يكمن في العودة إلى الأساسيات التي كانت تحكم العملية قبل الغرق في تفاصيل ونظريات التحديث و التطوير، هذه الأساسيات التي يعرفها جيداً وعمل بموحبها المعلمون ورجال التربية القدامى، والذين لن يبخل من بقي منهم على قيد الحياة في تقديم النصح والارشاد لإنقاذ المركب وإعادة الإمور إلى نصابها.